
في منطقة كالينينغراد بروسيا سابقًا وروسيا حاليًا، بدأت حكاية أول صورة لكسوف الشمس الكلي، حيث كلف المرصد الملكي البروسي يوهان يوليوس فريدريش بيركوفسكي، المصور البارع بتقنية الداغريوتايب، بتسجيل هذا الحدث الاستثنائي، فكانت بداية عصر جديد في تصوير الظواهر الفلكية، وأثمرت جهوده عن لقطة تاريخية فريدة من نوعها.
الداغريوتايب: ولادة التصوير الشمسي
لإبداع صورة بتقنية الداغريوتايب، كان العمل يبدأ بصقل صفيحة نحاسية حتى تلمع كالمرآة، ثم تُغطى بطبقة فضية براقة، وبعدها، كانت طبقة الفضة تُعالج باليود، مما يجعلها حساسة للضوء، بعد ذلك، تُعالج الصورة الكامنة الضعيفة ببخار الزئبق، لتظهر في النهاية الصورة الملتقطة على الصفيحة الفضية، وكأنها مرآة تعكس ضوء الشمس.
الصور الداغريوتيبية، كما يوضح الخبراء، تختلف عن الصور الفوتوغرافية الحديثة، فهي أقرب إلى انعكاس على سطح مرآة، حيث يمكن رؤية الصورة بشكل موجب أو سالب، وذلك تبعًا لزاوية ميل اللوحة، ما يمنحها طابعًا فريدًا ومميزًا.
تلسكوب صغير لإنجاز تاريخي
لإتمام هذه المهمة الرائدة في ذلك العصر، تم تركيب تلسكوب كاسر صغير بقطر 6 سنتيمترات على مقياس “فراونهوفر” الشمسي، وهو جهاز يستخدم لتحديد خطوط الامتصاص الداكنة في طيف الشمس، بقطر 15.8 سنتيمترا، والتقط المصور المشهد بتعريض ضوئي لمدة 84 ثانية بعد فترة وجيزة من بداية الكسوف الكلي، وكان ذلك تحديًا كبيرًا في ظل التقنيات المتاحة آنذاك.
اللقطة النادرة لكسوف الشمس الكلي برهنت على أن “بيركوفسكي” أتقن عمله ببراعة، حيث اختار التعريض الضوئي المثالي، ونجح في التقاط أول صورة للتوهجات الشمسية، هذه الصورة لم تظهر التباين بين الهالة الشمسية والقمر فحسب، بل كشفت أيضًا عن بروزات وميضية تمتد من قرص الشمس، ما أضاف قيمة علمية وفنية للعمل.
قبل هذا الإنجاز، كانت هناك محاولات أخرى لتصوير كسوف الشمس، لكنها غالبًا ما أسفرت عن صور باهتة أو مفرطة الإضاءة، ويرجع ذلك إلى التباين الشديد بين الهالة الشمسية الساطعة وقرص القمر المظلم، مما جعل مهمة التصوير في غاية الصعوبة.
صورة بيركوفسكي: نافذة على الشمس
بعبارة أخرى، كانت صورة بيركوفسكي بتقنية الداغريوتايب هي الأولى التي تظهر بوضوح هالة الشمس، أي غلافها الجوي الخارجي، بالإضافة إلى النتوءات الشمسية، وهي عبارة عن حلقات من البلازما المشتعلة، لتكون بذلك فتحًا علميًا وتصويريًا.
هذا الإنجاز قدم دليلًا بصريًا قاطعًا على أن هذه السمات تنشأ من الشمس نفسها وليس من القمر، مما أنهى جدلًا طويلًا بين علماء الفلك، إضافة إلى ذلك، مكنت الصورة علماء مثل “وارن دي لا رو” في كسوف عام 1860 من دراسة بنية الهالة الشمسية، وأكدت أصلها الشمسي، مما ساهم لاحقًا في تطوير نظريات حول تركيب الشمس وسلوكها.
أسرار ظاهرة الكسوف
تتعدد أنواع الكسوف وتختلف في طبيعتها وتأثيراتها، فالكسوف ظاهرة فلكية تحدث بأنواع مختلفة تتراوح بين مرتين إلى خمس مرات في العام الواحد.
- الكسوف الكلي، الذي يغطي فيه القمر الشمس بالكامل، يحدث مرة واحدة كل 18 شهرًا تقريبًا.
- الكسوف الحلقي، الذي يمر فيه القمر بين الشمس والأرض ويظهر كـ “حلقة نارية”، يحدث مرة واحدة كل عام إلى عامين.
- أما الكسوف “الهجين” النادر، الذي يتحول فيه الكسوف الحلقي إلى كلي خلال مساره، فيحدث مرة واحدة كل عشر سنوات تقريبًا.
الجدير بالذكر أن آخر مرة حدث فيها الكسوف خمس مرات في عام واحد كانت سنة 1935، ويتوقع علماء الفلك ألا يتكرر هذا الأمر قبل عام 2206.
صورة كسوف الشمس الكلي التي التقطت عام 1851 تعكس مهارة الإنسان وشغفه باستكشاف أسرار الكون، وتبرز في الوقت ذاته التطور الهائل الذي شهده عالمنا، حيث بات بإمكان أي شخص اليوم التقاط صور للكسوف بهاتفه الذكي، فتحولت معجزات الماضي إلى حقائق يومية، ولكنها لا تزال تثير دهشة وإعجاب الحاضرين.
المصدر: RT