«تحت المجهر».. تباطؤ النمو يخيم على قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي رغم مظاهر الازدهار

«تحت المجهر».. تباطؤ النمو يخيم على قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي رغم مظاهر الازدهار

تُعرف إسرائيل عالميًا بـ “أمة الشركات الناشئة”، وبكونها مركزًا حيويًا للتكنولوجيا والابتكار، وتتصدر عناوين الأخبار بقصص النجاح والاستثمارات الهائلة، لكن وراء هذا البريق التكنولوجي، تتشكل بهدوء أزمة متفاقمة في سوق العمل.

تكشف الأرقام الصامتة عن حقيقة أخرى، حيث يُستبعد آلاف المهنيين ذوي الخبرة من هذا المجال، بينما تبدو الشركات أكثر تركيزًا على الكفاءة وتقليل الاستثمار في الموارد البشرية، إنه تناقض صارخ بين الصورة البراقة التي يتم الترويج لها عالميًا، والواقع القاتم الذي يواجهه العاملون في عمق الصناعة التكنولوجية المحلية.



مصدر الصورة
المهن التقنية الأساسية شهدت تراجعا لافتا في إسرائيل (شترستوك)

الهدوء الذي يسبق العاصفة.. أرقام تُنذر بتحول مفصلي

كشف تقرير مشترك بين “سي تك” (CTech) و”كالكاليست” (Calcalist) عن بيانات مدهشة تشير إلى تفاقم أزمة التوظيف في قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي، بالرغم من المظاهر المزدهرة.

إذ تضاعف عدد الباحثين عن عمل في هذا القطاع بنسبة هائلة بلغت 112%، حيث ارتفع من حوالي 7 آلاف في يناير 2019 إلى ما يقارب 15 ألفًا في أبريل 2025، في تناقض ملحوظ مع انخفاض بنسبة 4% في عدد الباحثين عن عمل في القطاعات الأخرى خلال الفترة نفسها.

على الرغم من أن الإحصائيات الرسمية لا تتضمن أولئك الذين لم يسجلوا للحصول على إعانات البطالة، والذين يشكل الشباب غير المؤهلين النسبة الأكبر منهم، إلا أن الضربة القوية استهدفت ذوي الخبرة، وخاصة الفئة العمرية بين 36 و 45 عامًا، الذين كانوا يمثلون الدعامة الأساسية لهذا القطاع حتى وقت قريب.

في السياق ذاته، شهدت المهن التقنية المحورية انحدارًا ملحوظًا، حيث زاد عدد الباحثين عن عمل في مجالات قواعد البيانات والشبكات بنسبة تجاوزت 223%، وفي تطوير البرمجيات وتحليل التطبيقات بنسبة 147%، وتشكل هاتان الفئتان وحدهما نصف العاطلين عن العمل في قطاع التكنولوجيا حتى أبريل 2025.

الأكثر خطورة هو الارتفاع الكبير في نسبة أصحاب الرواتب المرتفعة (الذين يتقاضون ما بين 25,600 و 43,800 شيكل شهريًا، أي ما يعادل حوالي 7100 إلى 12,200 دولار أمريكي) من بين العاطلين عن العمل، حيث قفزت نسبتهم من 15% في عام 2022 إلى 40% في عام 2025، مما يشير إلى أن ما يُعرف بـ “الطبقة الوسطى القوية” من المهنيين المهرة لم تعد في مأمن.

أقرأ كمان:  تشكيلة الأهلي اليوم والبدلاء أمام البنزرتي التونسي المعلق والقنوات الناقلة

تشير البيانات إلى أن هذه الأزمة ناتجة بشكل أساسي عن عمليات التسريح وليس الاستقالات، حيث تضاعف عدد المسرحين بمقدار 2,5 مرة بين الربع الأول من عام 2022 والربع الأول من عام 2025.

التحول الأهم هو انعكاس ميزان القوى في السوق، ففي عام 2019، كان هناك 1,6 وظيفة متاحة لكل باحث عن عمل، ولكن بحلول عام 2025، انخفض هذا الرقم إلى 0,9 فقط، مما يعني أن المعروض من العمالة تجاوز الطلب.

بالرغم من أن إجمالي التوظيف في هذا القطاع قد نما بنسبة 22,5% خلال الفترة نفسها، إلا أن تضاعف عدد الباحثين عن عمل يكشف عن وجود فجوة حقيقية واختلال هيكلي يهدد استقرار هذا القطاع الحيوي.



مصدر الصورة
الاعتماد المتزايد على تقنيات الذكاء الاصطناعي أدى إلى قفزة في إنتاجية العاملين، مما غير مقياس النجاح داخل الشركات (شترستوك)

من التوسع الجامح إلى الانكماش الموجه

بعيدًا عن الصورة النمطية لعمليات التسريح الجماعي أو الانهيارات المفاجئة، فإن ما يحدث بالفعل في قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي أقرب إلى تباطؤ تدريجي يعيد تشكيل السوق من الداخل.

الشركات الكبرى لم تشهد انهيارات، ولكنها أصبحت أكثر حذرًا وانتقائية، ولا تقوم بالتوظيف إلا عند الضرورة القصوى وبعد دراسة اقتصادية متأنية.

لقد انتقل السوق من مرحلة التوسع المفرط التي كانت تشهد استقطابًا مكثفًا للكفاءات، إلى مرحلة الانكماش الموجه، حيث أصبح كل قرار توظيف استراتيجيًا ومدروسًا بعناية.

هذا التحول يعيد تعريف مفاهيم النجاح والكفاءة، الأمر الذي جعل الخبرات المتوسطة والعليا، التي كانت تمثل أساس الفرق التقنية، تجد نفسها اليوم مهمشة، ليس بسبب نقص في الكفاءة، ولكن لأن معايير السوق قد تغيرت بشكل جذري، ولم تعد الميزات التي كانت ذات قيمة في الماضي مناسبة لليوم.

أقرأ كمان:  «قيادة خضراء» الدكتورة منال عوض ميخائيل تتولى حقيبة وزارة البيئة المصرية: ملفات طموحة وتحديات مناخية في الانتظار

بالرغم من أن قطاع التكنولوجيا لا يزال يحتفظ بنسبة عالية من الوظائف الشاغرة مقارنة بالقطاعات الأخرى، إلا أن هذه النسبة لا تعكس فرصًا حقيقية لجميع الباحثين عن عمل، لأن غالبية هذه الوظائف تتطلب مهارات متخصصة جدًا أو خبرة في مجالات معينة لا تتوفر إلا لعدد قليل من الأشخاص.

طفرة مالية وسوق عمل متقلص

وراء هذه الأرقام المحبطة، تظهر مفارقة تثير القلق: ازدهار مالي غير مسبوق لا ينعكس على فرص العمل، بل يتزامن مع انكماشها، حيث شهد النصف الأول من عام 2025 مستويات قياسية من جمع الاستثمارات في قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي، مما قد يوحي بوجود انتعاش متجدد، إلا أن الواقع على أرض الواقع يحكي قصة مختلفة.

إن الاعتماد المتزايد على تقنيات الذكاء الاصطناعي قد أدى إلى قفزة كبيرة في إنتاجية الموظفين، مما غير مقياس النجاح داخل الشركات.

لم يعد التوسع يعتمد على توظيف المزيد من الأشخاص، بل على العكس، أصبح تقليل عدد الموظفين مؤشرًا على الكفاءة التكنولوجية، شركات عملاقة مثل مايكروسوفت قامت بتسريح الآلاف، بينما يحلم مؤسسو الشركات الناشئة اليوم ببناء “شركة يونيكورن مكونة من شخص واحد” (A one-person unicorn).

هذا التحول العميق لا يهدد ذوي الخبرة فحسب، بل يستبعد أيضًا الخريجين الجدد والوظائف المبتدئة التي كانت تمثل نقطة دخول الشباب إلى هذا القطاع.

بالإضافة إلى ثورة الذكاء الاصطناعي، تفاقمت الأزمة بسبب موجات التسريح التي نفذتها الشركات العالمية التي لديها مراكز تطوير في إسرائيل، بالإضافة إلى شركات “يونيكورن” محلية بالغت في التوظيف خلال سنوات الازدهار، ثم اضطرت إلى تقليل إنفاقها مع ارتفاع أسعار الفائدة وانخفاض السيولة.

إضافة إلى كل هذا، أدى تجنيد حوالي 20% من العاملين في مجال التكنولوجيا في الخدمة الاحتياطية لفترة طويلة إلى انخفاض في مشاركة القوى العاملة، بينما تمتلئ منصات التواصل الاجتماعي بقصص عن الاستقالات المبكرة والإرهاق الوظيفي.

أقرأ كمان:  «صراع الأجنحة» لماذا يضع تين هاج ثقته في راشفورد بدلًا من رافينيا و يامال؟

خبرات ضائعة في سوق لا يستمع

من ناحية أخرى، تبرز طريقة التوظيف نفسها كعقبة إضافية تعيق استيعاب الكفاءات العالية، ففي العديد من الشركات، يُطلب من المرشحين، حتى للمناصب الإدارية، إكمال مهام تقييم منزلية شاقة، مما يدفع عددًا كبيرًا منهم إلى الانسحاب.

وفقًا لما ذكره شموئيل نافون، المدير العام لشركة “وولت ماركت” (Wolt Market) الإسرائيلية، فإن حوالي 25% من المرشحين ينسحبون خلال مرحلة التقييم العملي، سواء للوظائف الإدارية أو حتى للمبتدئين.

يرى العديد من المرشحين أن عمليات التقييم هذه ليست سوى استنزاف غير مبرر للوقت و”عمل غير مدفوع الأجر”، وغالبًا ما يشعرون أنها مهينة أو تقلل من قيمة خبراتهم، ويرى الخبراء أن أساليب التقييم غير المدروسة قد تنفر المواهب وتضعف صورة الشركة كوجهة جذابة للكفاءات.

حتى في سوق يسيطر عليه أصحاب العمل، تظل تجربة المرشح الإيجابية عاملاً حاسمًا في الحفاظ على الصورة المهنية للشركة.

في المقابل، يختار بعض ذوي الخبرة البحث عن فرص خارج نطاق التكنولوجيا التقليدية، من خلال العمل كمستقلين أو الانتقال إلى مجالات موازية مثل التكنولوجيا الحيوية أو المالية والطاقة الذكية، وتشير بيانات شركات التوظيف إلى أن بعض هذه القطاعات تشهد ارتفاعًا في الطلب على الكفاءات التقنية، وإن كان ذلك بشكل انتقائي ومحدود.

خلف واجهة الازدهار، يتآكل السوق التكنولوجي الإسرائيلي من الداخل، فبين الكفاءات التي يتم إقصاؤها والشركات التي تعيد تعريف النجاح بأقل عدد ممكن من الموظفين، تبدو فرص التعافي محدودة.

حتى الصناعات الدفاعية، التي تستوعب مؤقتًا بعض المسرحين، قد تتحول إلى عبء إضافي إذا انخفضت الطلبات العالمية على الأسلحة، مما يفتح الباب أمام موجة جديدة من التسريحات، فهل سيصمد هذا القطاع بينما تتصدع أسسه من الداخل؟