التغير المناخي… حين يصبح الجفاف دافعاً للهجرة

التغير المناخي… حين يصبح الجفاف دافعاً للهجرة

في السنوات الأخيرة، تحوّلت قضايا التغير المناخي من مجرد أرقام وتقارير علمية باردة إلى قصص إنسانية مؤثّرة وحية، وبالنسبة لي كصحفي قضيت سنوات أتابع أثر المناخ على حياة الناس، أصبحت هذه القصص جزءًا لا يتجزأ من واقعي، أعرف أصحابها جيدًا وأدرك حجم معاناتهم.

الأردن: قصص الجفاف والهجرة

شهدتُ في شمال الأردن، ووثّقتُ في تقارير صحفية عديدة، كيف ابتلع الجفاف مواسم الحصاد، وكيف تحوّلت سهول الخضار والقمح الخصبة إلى أراضٍ مُجهدة وعقيمة، لم تعد تعطي ثمارها كما كانت تفعل لأجيال طويلة، مما هدّد الأمن الغذائي وسبل عيش الآلاف.

في تلك القرى المتأثرة، خسرت الزراعة أغلى ما تملك: شبابها الواعد، فقد اضطر آلاف الشباب الذين كانوا يمثلون عماد الحقول إلى ترك أراضيهم، بعدما باتت عاجزة عن إعالتهم، بعضهم رمى معوله الأخير فوق كومة من التراب، متخذًا القرار الأصعب: الهجرة، اتجه الكثير منهم نحو طرق غير شرعية، مجازفين بحياتهم ومستقبلهم في رحلات محفوفة بالغموض والمخاطر، بحثًا عن فرصة وكرامة لم تعد أرضهم العطشى قادرة على منحها لهم، الأمر الذي يشكل نزوحًا قسريًا بحد ذاته.

الهجرة: استجابة لأزمة اقتصادية ومناخية

لم تكن هذه الظاهرة معزولة بل هي جزء من مشهد أوسع، ففي مقالات ذات صلة، برزت صورة أشمل للهجرة الأردنية الجديدة، حيث يهرب الشباب من ضيق الأفق الاقتصادي والبطالة المستشرية، وينتهي ببعضهم المطاف يقاتلون في روسيا بعد أن وجدوا أنفسهم محاصرين بالفقر واليأس، كلا المسارين، سواء عبر مزارع الشمال الجافة أو نحو ساحات القتال الدولية، يعكس هشاشة المنظومة التي تدفع شباب المنطقة إلى خيارات قصوى ويائسة، حين تغيب التنمية الشاملة وفرص العمل الكريمة.

التغير المناخي ليس مجرد خلفية للأحداث العابرة، بل هو محرك أساسي يعيد تشكيل أنماط العيش، ويعيد رسم خرائط الهجرة في منطقة جنوب البحر الأبيض المتوسط، فحين تفقد الأرض خصوبتها وتتناقص موارد المياه وتتراجع القدرة على الإنتاج، يصبح الشباب أول ضحايا هذه الدائرة المفرغة، الهجرة غير الشرعية ليست خيارًا رومانسيًا أو مغامرة طوعية، بل هي نتيجة طبيعية حتمية لفشل بيئة اقتصادية ومناخية لم تعد قادرة على الاحتفاظ بأغلى ما لديها، وهم أبناؤها.

من هنا، يصبح الربط بين التغير المناخي والهجرة خطوة ضرورية وأساسية لأي حديث جدي عن المستقبل المستدام، لا سيما في دول جنوب البحر الأبيض المتوسط، مثل الأردن، تونس، المغرب، الجزائر، مصر، وليبيا، التي تواجه تحديات بيئية واقتصادية متزايدة ومعقدة.

ميثاق من أجل المتوسط: أمل جديد

يوم الخميس القادم، سأشارك في حفل إعلان ميثاق من أجل البحر الأبيض المتوسط في برشلونة، وهو حدث محوري يعيد تعريف آفاق التعاون بين ضفتي المتوسط، على أساس التحديات والطموحات المشتركة التي تجمعنا.

يعتبر الميثاق إطارًا جديدًا ومبتكرًا لبناء فضاء متوسطي أكثر ترابطًا وازدهارًا ومرونة وأمنًا، ويقوم على مبادئ الملكية المشتركة، والإبداع المشترك، والمسؤولية المشتركة، مع التركيز على مبادرات ملموسة ومستدامة تعود بفائدة حقيقية ومباشرة على الناس والاقتصادات المحلية في المنطقة.

أبرز ما يلفت الانتباه في هذا الميثاق هو تركيزه الكبير على قضايا الشباب والتغير المناخي، وهما العنصران الأكثر ارتباطًا بملف الهجرة غير الشرعية، أي إصلاح حقيقي وشامل في المنطقة لن يكتمل دون معالجة جذور الهجرة بفاعلية، والتي تشمل المناخ، وفرص العمل اللائق، والأمن الغذائي، والتنمية الاقتصادية المستدامة، فالدول المتأثرة بالتغير المناخي هي دول غير ملوثة بالضرورة للمناخ، لكنها تدفع الضريبة الأكبر لهذه المشكلة العالمية المعقدة.

العدالة المناخية: ضرورة ملحة للحل

ورغم أن دول جنوب المتوسط تتحمّل العبء الأكبر من هذه الأزمات المتفاقمة، إلا أنها ليست المسؤولة تاريخيًا عن التلوث الصناعي الذي تسبب في التغير المناخي العالمي، هنا يصبح مفهوم العدالة المناخية ضروريًا وواجبًا أخلاقيًا ملحًا، لماذا تدفع المجتمعات الأقل تلويثًا ثمن أخطاء الاقتصادات الصناعية العملاقة، ولماذا يُطلب من دول الجنوب أن تعالج تبعات أزمة ليست من صنعها، بل فُرضت عليها نتيجة ممارسات عالمية؟

من هذا المنطلق، يصبح وضع الشباب والمناخ في قلب السياسات العامة لدول جنوب المتوسط واجبًا لا رفاهية أو خيارًا ثانويًا يمكن التغاضي عنه، فهما معًا يمثلان جوهر المشكلة وجوهر الحل في آن واحد، فالهجرة غير الشرعية لا تبدأ عند شواطئ المتوسط، حيث تتسابق القوارب والزوارق المحملة باليائسين، الهجرة تبدأ من اليابسة، من الحقول التي جفّت وتصدّعت، ومن المشاريع الصغيرة التي لم تُدعم ولم تجد طريقها للنجاح، ومن التعليم الذي لم يُحدّث ولم يواكب متطلبات العصر، ومن اقتصاد لم يُدمج بفاعلية مع العالم الجديد، ولم يوفر فرصًا حقيقية لأبنائه وشبابه.