شهد عام 2025، مع اقترابه من نهايته، حالة غير مسبوقة من فوضى الإنتاج في قطاع الخضار والفواكه الزراعي على مستوى العالم، نتيجة لتضافر عوامل زراعية، اقتصادية، ومناخية معقدة. فقد أدى الخلل الجذري بين العرض والطلب، وغياب التخطيط الزراعي الاستراتيجي، بالإضافة إلى التقلبات الجوية الحادة، إلى اضطرابات واسعة النطاق في الأسواق الدولية بالعديد من الدول. تجلى ذلك في ارتفاعات سعرية مفاجئة تتبعها انهيارات سريعة بفعل الفائض الكبير، فضلاً عن تلف كميات هائلة من المحاصيل بسبب قصور في آليات التخزين.
تحديات القطاع الزراعي في الأردن
على غرار العديد من الدول، عانى القطاع الزراعي في الأردن من تذبذب ملحوظ في إنتاج الخضار والفواكه، مما أثر سلبًا على المزارعين، والمستهلكين، والسوق المحلي على حد سواء. فقد توسع العديد من المزارعين في زراعة محاصيل معينة بناءً على تقديرات فردية وتوقعات غير دقيقة، مما أسفر عن تكدس كميات ضخمة من أصناف مثل البندورة، الكوسا، والخيار، في حين شهد السوق نقصًا في محاصيل أساسية أخرى. زادت الظروف المناخية غير المستقرة من هذه التحديات، حيث أدت موجات الحر المبكرة والصقيع المتأخر إلى إرباك مواسم النمو وتذبذب جودة وكميات الإنتاج. ومع تصاعد تكاليف مدخلات الإنتاج، تفاقمت خسائر المزارعين، ليجد المزارع الأردني نفسه أمام معادلة صعبة، تتألف من تكاليف إنتاج متزايدة باستمرار، وأسعار بيع متدهورة فجأة، وفائض محاصيل لا يجد سبيلاً للتصرف به أو تصنيعه.
لم تتوقف تداعيات الأزمة عند حدود المزارعين، بل امتدت لتشمل المستهلكين الذين عانوا من تقلبات سعرية حادة، وضعف في جودة بعض الأصناف خلال فترات الإنتاج الوفير، نتيجة للقطف المبكر أو التخزين غير الملائم. وفي ظل محدودية قنوات التصدير وضعف القدرة على تنظيم تدفق المحاصيل، باتت الحاجة ملحة لإعادة تقييم شاملة لمنظومة الإنتاج الزراعي بأكملها.
جذور فوضى الإنتاج الزراعي
تعني فوضى الإنتاج الزراعي، بتبسيط، غياب التوازن المحكم بين ما تُنتجه الحقول وما يحتاجه السوق فعليًا، سواء بتراكم فائض كبير يؤدي إلى انهيار الأسعار، أو بحدوث نقص حاد يدفعها للارتفاع. ويعود هذا الاختلال بشكل كبير إلى ضعف قاعدة البيانات المتاحة، والافتقار إلى معلومات دقيقة حول المساحات المزروعة، وحجم الإنتاج الفعلي، ومستويات الاستهلاك المحلي، وكميات التصدير والاستيراد، بالإضافة إلى أن القرارات الزراعية غالبًا ما تُتخذ بشكل فردي، وتفتقر إلى الاستناد لدراسات علمية وواقعية.
تساهم مجموعة من التحديات الهيكلية والبنية التحتية في تعميق هذه الأزمة، أبرزها صغر الحيازات الزراعية وتشتتها، مما يجعل تنظيم الإنتاج ورفع كفاءته أمرًا بالغ الصعوبة، ويعيق قدرة المزارعين على الاستثمار في التقنيات الحديثة. كما أن غياب التعاقدات المسبقة بين المزارعين والمصانع والمصدرين يجعل عملية التسويق عرضة لتقلبات السوق اليومية والمزاجية. ويزيد من تعقيد المشكلة التأثير المتصاعد للتغيرات المناخية، ومحدودية الموارد المائية، بالإضافة إلى ضعف قطاع التصنيع الغذائي الذي لا يزال غير قادر على استيعاب فائض الإنتاج في مواسم الذروة.
الآثار الاقتصادية والاجتماعية لفوضى الإنتاج
تتجلى هذه التحديات في صور اقتصادية واجتماعية واضحة، منها خروج بعض المزارعين من قطاع الزراعة بعد تراكم الخسائر والديون، وتراجع فرص العمل المتاحة في المناطق الريفية، وتزايد رفض الشباب للانخراط في العمل الزراعي. يُضاف إلى ذلك ارتفاع الفاقد من المحاصيل بعد الحصاد بشكل مقلق، والذي يُعزى إلى محدودية مراكز الفرز، والتدريج، والتبريد.
| الوصف | النسبة |
|---|---|
| متوسط الفاقد في بعض المحاصيل | 30-40% |
نحو حلول مستدامة لتنظيم القطاع الزراعي
من هنا، يصبح العمل ضروريًا على بناء نظام وطني متكامل لتخطيط الإنتاج الزراعي، يحدد المحاصيل الملائمة لكل منطقة، ويضبط مواعيد الزراعة، بما يتوافق مع احتياجات السوق المحلي وقدرات التصدير. كما يتوجب إنشاء منصة رقمية وطنية توفر بيانات دقيقة ومحدثة حول الإنتاج، الاستهلاك، الطقس، والآفات، لدعم اتخاذ قرارات زراعية مستنيرة وقائمة على المعلومات العلمية.
يتطلب الأمر أيضًا تعزيز مفهوم الزراعة التعاقدية وربط المزارعين بالمصانع والمصدرين لضمان استقرار السوق، إضافة إلى تطوير سلاسل التزويد والتخزين عبر إنشاء مراكز تجميع، وفرز، وتبريد، ونقل مبرد في المناطق ذات الإنتاج الزراعي الوفير، لربط الأسعار بالجودة والمواصفات. وفي ظل الظروف المحلية والإقليمية، يصبح دعم التصنيع الغذائي خطوة حيوية لتقليل الخسائر وامتصاص الفائض خلال مواسم الإنتاج المرتفع. كما يستدعي الوضع إعادة تنظيم الأسواق المركزية من خلال رقمنة التعاملات، والحد من عدد الوسطاء، وفرض الشفافية في تحديد الأسعار.
أما على مستوى مواجهة المخاطر المناخية، فيجب تعزيز دور صندوق المخاطر الزراعية وتطوير نظام إنذار مبكر فعال، يساعد المزارعين على التعامل بفعالية مع موجات الصقيع، والحرارة، والآفات قدر الإمكان، وذلك لتخفيف الآثار السلبية المترتبة على هذه التغيرات.
خاتمة: دعوة لإعادة هيكلة شاملة
إن ما شهده هذا العام من فوضى في الإنتاج الزراعي يمثل رسالة واضحة للجميع بضرورة إعادة هيكلة شاملة للقطاع الزراعي، ليصبح أكثر تنظيمًا، ومرونة، وقدرة على التنبؤ. فالأمن الغذائي لن يتحقق بمجرد زيادة الإنتاج، بل عبر إنتاج منظم، ومدروس، ومتوافق بدقة مع احتياجات السوق. الزراعة ليست مجرد عملية إنتاج، بل هي منظومة مترابطة ومعقدة تحتاج إلى رؤية موحدة وسياسات واضحة. إن فوضى الإنتاج الزراعي لم تضر المزارع فقط، بل انعكست سلبًا على المستهلكين، والأسواق، والأمن الغذائي للمجتمع.
يتطلب ذلك حلولًا جذرية في طريقة إدارة الإنتاج الزراعي، من خلال تبني التخطيط الوطني المبني على البيانات، وتطوير سلاسل التزويد والتخزين، وتعزيز التصنيع الغذائي، وتنظيم الأسواق المركزية، وتقوية أدوات مواجهة التغير المناخي. عندما يصبح الإنتاج أكثر تكاملًا مع احتياجات السوق، ويمتلك المزارع المعلومة والتسويق السليم، يمكن للأردن أن يحقق قطاعًا زراعيًا مستقرًا ومزدهرًا، مما يؤدي إلى تحسين دخل المزارعين وضمان استدامة الموارد للأجيال القادمة.
