المسرح القومي في أم درمان.. محاولات لإعادة نبض الفن السوداني

المسرح القومي في أم درمان.. محاولات لإعادة نبض الفن السوداني

على أطلال المسرح القومي العريق في أم درمان، ارتفعت نغمات كمان الفنان السوداني لوي عبد العزيز، لتعزف لحنًا يلامس القلوب، ويستحضر ذكريات زمنٍ ذهبي، كان فيه المسرح نبضًا للحياة والفن. لم تكن تلك المقطوعة مجرد عزف، بل كانت استدعاءً لذاكرة فنية سودانية ثرية بالإبداع والوطنية، أعادت إلى الأذهان أيامًا كانت فيها قاعات المسرح تعجّ بالجماهير والتصفيق الحار.

وعبر صفحته على فيسبوك، وثّق لوي تلك اللحظة المؤثرة قائلاً: “الفن أعلى صوتا، والحب أصدق قولا… ما زال نفس المكان، رغم الخراب، يواصل حربه ضد القبح والبؤس. إنه المسرح القومي، معقل الجمال… في سموك ومجدك، عشتَ يا سوداني”.

لكن هذا البؤس لم يكن وليد اللحظة أو نتيجة الحرب الأخيرة فقط، وإن تفاقم خلالها، بل هو تراكم لإهمال طويل الأمد، فالمبنى الذي كان يتسع لأكثر من ألفين وخمسمائة متفرج، تحول تدريجيًا إلى ساحة مهجورة، تآكلت أساساته بفعل المياه، وبات مهددًا بالانهيار. آثار الإهمال بادية للعيان، تغطي الجدران، وتنخر في البنيان، لتجعل من هذا الصرح العظيم شاهدًا صامتًا على النسيان والخراب.

أم كلثوم مرتدية الثوب السوداني على المسرح القومي عند زيارتها للخرطوم 1968

بوستر اعلاني لحفل أسطورة الجاز الأميركي لويس أرمسترونغ 1961

بوستر اعلاني لمسرحية مدير ليوم واحد على خشبة المسرح القومي بأم درمان 1977

### المسرح القومي.. ذاكرة وطن تتجاوز خشبة العرض

منذ تأسيسه، لم يكن المسرح القومي في أم درمان مجرد مكان للعروض الفنية، بل كان ملتقى للهوية السودانية، ومرآة عاكسة للفن والسياسة، وشاهدًا على الأحداث التاريخية التي شكلت وعي المجتمع على مر العقود. تأسس هذا الصرح الثقافي عام 1959، وافتُتحت أولى مواسمه في عام 1967، ليحتضن كبار الفنانين السودانيين أمثال الفكي عبد الرحمن، ومكي سناده، والفاضل سعيد، وتحية زروق، وفائزة عمسيب، وغيرهم الكثير، بالإضافة إلى استضافة نجوم عالميين مثل مريم ماكيبا، وأم كلثوم، وهاري بيلافونت، كما شهد المسرح عروضًا مسرحية ناجحة مثل “مدرسة المشاغبين”.

المسرح القومي بعد الحرب

وفي حديثه لـ”العربية.نت” و”الحدث.نت”، وصف المخرج في المسرح القومي والفرقة القومية للتمثيل، حاتم محمد علي، المسرح القومي بأنه “لم يكن مجرد دار عرض، بل المظلة الكبرى التي تُنسج تحتها تفاصيل الحياة المسرحية في السودان”، مؤكدًا أن المسرح لعب منذ تأسيسه دورًا حيويًا في نشر الثقافة والوعي، وأثرى الحركة الفنية بليالٍ عامرة بالإبداع على مدار عقود طويلة.

وأشار إلى أن الأعمال المسرحية تُنتج ضمن ما يُعرف بـ”الموسم المسرحي”، حيث تُعرض أولاً على خشبة المسرح القومي، ثم تنتقل إلى مختلف أقاليم السودان، حاملةً رسالة الفن والإبداع والتنوير، وأضاف أن المسرح القومي يضم الفرقة القومية للتمثيل، التي يختار أعضاؤها وفق معايير العطاء والتفوق، ويظل مركزًا للمنتديات الفكرية والنقدية، وموثقًا للذاكرة المسرحية السودانية.

المسرح القومي بعد الحرب

### ليالٍ خالدة نُقشت على جدران المسرح

لم يقتصر تأثير المسرح القومي على الساحة المحلية، بل تجاوز الحدود ليصبح جسرًا ثقافيًا يربط السودان بالعالم العربي والدولي، حيث تفاعل الجمهور مع عروض الفنان الكوميدي عادل إمام، واستمتع بأغاني كوكب الشرق أم كلثوم، وأنصت إلى نغمات مريم ماكيبا وهاري بيلافونت، وعزف أسطورة موسيقى الجاز لويس أرمسترونغ، كما استضاف المسرح أمسيات شعرية وموسيقية لا تُنسى مع الشاعر محمود درويش والموسيقي مارسيل خليفة.

كما استقبل المسرح القادة العرب، وعلى رأسهم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، مما يؤكد البعد السياسي والثقافي لهذا الصرح، ويجعله فضاءً يتقاطع فيه الفن مع الوجدان الوطني.

إنشاء المسرح القومي بأم درمان 1959

### من المجد الشامخ إلى الحاضر المتصدع

يرى الناقد هيثم أحمد الطيب أن المسرح القومي ظهر بعد الاستقلال كجزء من مشروع ثقافي وطني، مرتبط بفكرة “القومية” في بناء الوعي الثقافي السوداني، وقال لـ«العربية.نت»: “كان المسرح القومي جزءا من التعبير عن الوجدان الوطني ورافضا لتقييد الإبداع، مقارنة بتجارب عربية أخرى تجنبت مناقشة قضايا الوطن والمجتمع، وأي محاولة لإحياء المسرح اليوم يجب أن ترتكز على الحرية والعدالة في النص والممارسة”.

إنشاء المسرح القومي بأم درمان 1959

### شهادات من قلب الحدث

من جهته، يعتبر المخرج الشاب جسور أبو القاسم أن رمزية المسرح القومي متجذرة بعمق في الوجدان السوداني، خاصةً لموقعه المتميز على ضفاف النيل في قلب أم درمان، لكنه يشير إلى أن هذا الصرح التاريخي تعرّض “لجريمة إهمال متعاقبة” من الدولة ووزارة الثقافة تحديدًا، وأضاف لـ”العربية.نت” و”الحدث.نت”: “الجهود المبذولة لإعادة إعماره، على أهميتها، لا تزال غير كافية، والمسرح بحاجة إلى مشروع تطوير حقيقي وشامل يتجاوز منهج ‘النفير الاجتماعي’، إذا أردنا له أن يستعيد دوره الثقافي والفني”.

### المسرح القومي.. أيقونة تتحدى الزمن

على الرغم من سنوات الحرب وما خلفته من دمار وتحديات، يبقى المسرح القومي رمزًا صامدًا للهوية السودانية، وشاهدًا حيًا على قدرة الثقافة على البقاء، فحتى مع تصدع الجدران وتآكل المقاعد، لا تزال ذاكرته مفعمة بالتصفيق والأغنيات.

إنه أكثر من مجرد مبنى، إنه ذاكرة وطن وفن نابض بالحياة، يؤكد أن الإبداع، مهما واجه من صعاب، لا يعرف الموت، ويُذكّر الأجيال الجديدة بأن المسرح القومي ليس مجرد إرث تاريخي، بل منصة واعدة لإطلاق الطاقات الإبداعية، واستعادة أمجاد السودان على خشبته، متى ما توفرت الرؤية والإرادة الصادقة.

هذا المقال لا ينتمي لأي تصنيف.