خالد محمود يستعرض فيلم ثريا حبي الذي أعاد تقديم قصة مارون وثريا للجمهور مجددًا

خالد محمود يستعرض فيلم ثريا حبي الذي أعاد تقديم قصة مارون وثريا للجمهور مجددًا

نشر في: الأحد 23 نوفمبر 2025 – 11:46 م | آخر تحديث: الأحد 23 نوفمبر 2025 – 11:47 م

فيلم “ثريا حبّي” للمخرج نيكولا خوري، الذي عُرض في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي، فاز بجائزة أفضل فيلم وثائقي، ويعتبر عملاً وثائقياً يخرج عن حدود السيرة الذاتية التقليدية، ليدخل في منطقة معقدة تتداخل فيها الأزمنة، والذاكرة بالصورة، والهوية بنظرة الآخرين، لا يروي الفيلم فقط قصة الراقصة والممثلة ثريا بغدادي وعلاقتها بالمخرج الراحل مارون بغدادي، بل يستكشف سؤالًا أعمق: كيف تُروى حياة امرأة عندما تكون غير قادرة على امتلاك سرديتها بالكامل؟

يعتمد الفيلم بنية سردية تدمج بين الأرشيف الشخصي، والمقابلات الحميمة، والمشاهد اليومية المعاصرة لثريا، هذا التداخل لا يهدف فقط لتقديم مراحل حياتها، بل يكشف عن هشاشة الذاكرة نفسها، فكل مقطع أرشيفي يتبعه فراغ أو جرح في الحاضر، مما يجعل الزمن في الفيلم غير خطي، بل متكسر، يعكس نفسية بطلة تحاول إعادة تجميع شتاتها، يطرح الفيلم بشكل ضمني سؤالًا: من يملك الحقيقة؟ هل هي ثريا في لحظات الصراحة؟ أم الأرشيف؟ أم كاميرا المخرج التي تسعى لإعادة تشكيل الماضي؟

ثريا: الجسد كذاكرة

يقدم الفيلم ثريا ليس كضحية، أو كأيقونة، بل كجسد يعمل كأرشيف حي، حركاتها، وصمتها، وحتى القلق الذي يسيطر على ملامحها؛ كلها تتحول إلى لغة سينمائية، تكمن قوة الفيلم في أنه لا يروي فقط قصة امرأة أحبّت فناناً كبيراً، بل يقرأ الحب نفسه كقيد أحيانًا، وكنافذة خلاص في أحيان أخرى، الجسد – الذي كان في الماضي أداة تعبير على خشبات المسرح – يصبح في الحاضر دليلاً على ما واجهته مما لم تستطع النجاة منه.

حضور مارون بغدادي: الغائب الذي يحكم الصورة

رغم أن الفيلم يركز على حياة ثريا، إلا أن شبح مارون بغدادي يظل موجودًا كقوة سردية مركزية، يظهر من خلال الأشرطة القديمة، والكلمات المتناقلة، والذكريات المشوشة، وكأن الفيلم يقر بأن رواية حياة هذه المرأة لا يمكن فصلها عن الرجل الذي كان جزءًا كبيرًا من تشكيلها الفني والعاطفي، والمثير أن الفيلم لا يحتفي بمروان ولا يمقته، بل يترك للمشاهد مساحة ليرى العلاقة باعتبارها منطقة قوى وضعف في آن واحد.

لغة الصورة: واقعية بلا تزويق

يعتمد المخرج نيكولا خوري على أسلوب بصري خال من التجميل، الكاميرا قريبة من الوجوه، ثابتة في أحيان ومهتزة في أحيان أخرى، وكأنها تبحث عن الحقيقة داخل الشقوق، الإضاءة الطبيعية تعمق إحساس الوثيقة، وتجعل حضور ثريا يبدو حقيقيًا إلى حد الألم، هذه اللغة البصرية تتماشى مع طبيعة الموضوع، فالفيلم ليس محاولة لرسم لوحة مثالية، بل لكشف التصدعات التي تُبقي الإنسان حيًا رغم كل شيء.

في جوهره، الفيلم هو رحلة استعادة ثريا – التي عاشت سنوات طويلة في ظلال رجل أكبر حضورًا – تسعى هنا لاستعادة صوتها، لكن الفيلم لا يمنحها هذا الصوت بشكل مباشر، بل يسمح لها بتشكيله تدريجيًا أمام المشاهد، وهذه نقطة قوة بارزة: الوثائقي لا يدعي امتلاك الحقيقة، بل يتركها تتشكل أمام أعين المتلقي عبر التشظي، والتردد، والألم.

أما الأداء التمثيلي، فنجاح الفيلم يعتمد عليه بشكل أساسي، البطلة تحمل الفيلم على عاتقها، وتقدم أداءً قائماً على التوتر الداخلي والاقتصاد التعبيري، نظراتها، حركتها البطيئة، وحتى صمتها، تتحول إلى أدوات درامية بارزة، كأن الممثل هنا لا يؤدي دورًا بل يكشف عن طبقة من ذاته، الشخصيات الثانوية تم توظيفها بمهارة، فهي ليست موجودة لملء الفراغ، بل لتشكيل بيئات شعورية تكشف أوجهًا مختلفة من ثريا: ضعفها، مقاومتها، واستسلاماتها الصغيرة، بهذا التكامل بين الإخراج والمونتاج والأداء، ينجح الفيلم في خلق لغة سينمائية خاصة، تتحدث بنبرة خافتة لكنها عميقة، وتستفز المشاهد للمشاركة الوجدانية بدلاً من المشاهدة السطحية.

“ثريا حبّي” ليس فيلمًا عن الحب فقط، ولا عن الفن أو فقدانه، بل هو فيلم عن امرأة تحاول النجاة من صورتها القديمة، وعن سينما تدرك أن سرد الحياة ليس إعادة ترتيب للحقائق، بل تفكيك لطريقة النظر إلى الذات، يخرج المشاهد من الفيلم وهو يحمل سؤالًا ثقيلاً: هل يمكن لأي إنسان استعادة حياته حين تصبح جزءاً من ذاكرة الآخرين قبل أن تكون ذاكرته هو؟

هذا المقال لا ينتمي لأي تصنيف.