في أعقاب الحرب العالمية الأولى، تلك الكارثة التي حصدت أرواح الملايين وتركت ندوبًا عميقة في الذاكرة الإنسانية، خيم جو من التوتر والفتور على العلاقات الدبلوماسية في القارة الأوروبية، فمعاهدات السلام المجحفة التي أُمليت على ألمانيا وحلفائها لم تزد الأمور إلا سوءًا، وأشعلت فتيل الكراهية والعداء بين الدول الأوروبية المختلفة.
وبالتزامن مع هذه الأجواء المشحونة، كانت منطقة البلقان تعيش بدورها حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار، فمع بزوغ فجر مملكة يوغوسلافيا، نشأت علاقات متوترة مع العديد من دول البلقان، كما شهدت المنطقة صراعًا مريرًا بين اليونان وبلغاريا، بلغ ذروته في عام 1925 بسبب حادثة غريبة أُطلق عليها “حادثة الكلب الضال”.
عداوة تاريخية بين اليونان وبلغاريا
في القرن التاسع عشر، نالت كل من اليونان وبلغاريا استقلالهما من الإمبراطورية العثمانية بعد قرون من الخضوع والاحتلال، وفي مطلع القرن العشرين، تحالف البلدان خلال حرب البلقان الأولى ضد العثمانيين، ولكن سرعان ما تحول الحليفان إلى عدوين لدودين خلال حرب البلقان الثانية التي اندلعت في أواخر يونيو 1913، والتي أسفرت عن هزيمة ساحقة لبلغاريا أمام تحالف دول البلقان، الذي ضم اليونان والدولة العثمانية.
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، اختارت بلغاريا التحالف مع ألمانيا والنمسا-المجر، بينما فضلت اليونان الانضمام إلى دول الوفاق الثلاثي، التي ضمت فرنسا وبريطانيا وروسيا، وبعد انتهاء الحرب، فُرضت على بلغاريا معاهدة نويي عام 1919، التي أجبرتها على دفع تعويضات مالية باهظة، بالإضافة إلى فقدانها جزءًا من أراضيها لصالح دول الجوار، مثل اليونان التي حصلت على جزء كبير من تراقيا الغربية.
وعلى مر السنوات اللاحقة، ظلت العلاقات اليونانية البلغارية متوترة ومليئة بالشكوك، وفي عام 1925، تحول هذا التوتر إلى صراع عسكري مفتوح بين الطرفين، بسبب حادثة تبدو للوهلة الأولى بسيطة وغير ذات أهمية.
شرارة الحرب.. كلب ضال
في الثامن عشر من أكتوبر عام 1925، وبينما كان جندي يوناني يتمركز على الحدود اليونانية البلغارية، فر منه كلبه، وسارع الجندي لملاحقته، وفي غمرة انشغاله بمطاردة الكلب، عبر الجندي اليوناني الحدود بين البلدين دون أن ينتبه، وفي هذه اللحظة، أطلق جندي بلغاري النار عليه، وأرداه قتيلًا.
أشعلت هذه الحادثة غضبًا عارمًا في اليونان، حيث أدانت الحكومة اليونانية مقتل الجندي، واتهمت بلغاريا بانتهاك الحدود، وفي المقابل، قدمت بلغاريا اعتذارها لليونان، واقترحت تشكيل لجنة مشتركة للتحقيق في الحادث، إلا أن اليونان رفضت هذا الاقتراح، وطالبت بلغاريا بدفع تعويض قدره مليوني فرنك فرنسي لعائلة الجندي القتيل، وفي الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1925، أرسلت اليونان قوة عسكرية لغزو منطقة بيتريش البلغارية، التي شهدت الحادث.
أدى التدخل اليوناني إلى اندلاع اشتباكات عنيفة بين البلدين، استمرت حوالي أسبوع، وأسفرت عن مقتل 121 يونانيًا و80 بلغاريًا، معظمهم من المدنيين.
تدخلت عصبة الأمم لوقف هذا النزاع، وأصدرت قرارًا بوقف إطلاق النار وانسحاب القوات اليونانية من الأراضي البلغارية، كما أدانت عصبة الأمم التدخل العسكري اليوناني، وطالبت اليونان بدفع تعويض قدره 45 ألف جنيه إسترليني لبلغاريا.