هل يمكن للفن أن يكون دواءً بديلًا للأمراض النفسية؟ هذا التساؤل يكتسب زخمًا متزايدًا مع توسع نطاق التجارب التي تستغل المتاحف والمعارض الفنية كأداة لمواجهة التوتر والاكتئاب وتعزيز الصحة العقلية، بدأت هذه الفكرة منذ حوالي عقد من الزمان في بريطانيا، ثم تبنتها دول أخرى مثل كندا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا وحتى هونغ كونغ، حيث طُوّرت برامج تسمح للمرضى بزيارة المتاحف مجانًا بموجب وصفة طبية.
التجربة البريطانية وأثرها الواضح
كانت بريطانيا رائدة في إدراج ما يُعرف بـ “الوصفات الاجتماعية” ضمن نظام هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS)، ففي عام 2014، أطلقت مشروع “المتاحف الموصوفة طبيًا” الذي استمر لمدة ثلاث سنوات، واستهدف في بدايته كبار السن المعزولين اجتماعيًا، ومع مرور الوقت، أصبحت زيارات المتاحف والمعارض جزءًا لا يتجزأ من الرعاية الصحية الرسمية، وقد أظهرت البيانات تراجعًا في زيارات الطبيب بنسبة 37%، وانخفاضًا في حالات الدخول إلى المستشفيات بنسبة 27%، وذلك وفقًا لتحالف الثقافة والصحة والرفاهية، حسب ما نقله موقع SCMP.
انتشار عالمي لمفهوم العلاج بالفن
في كندا، بدأ الأطباء في مونتريال منذ عام 2018 في إصدار وصفات طبية لزيارة متحف مونتريال للفنون الجميلة، بمعدل 50 وصفة لكل طبيب سنويًا، مغطاة بالكامل بالتأمين الصحي، أما بروكسل، فقد أطلقت برنامجًا مشابهًا في عام 2021 بدأ بخمسة متاحف، ليشمل اليوم أكثر من 10 متاحف و18 مؤسسة طبية، مع تحمل المدينة لرسوم الدخول، وفي فرنسا، امتدت هذه المبادرات من منطقة بريتاني إلى كوت دازور، حيث تتيح وصفة “الفن صحة” الدخول إلى متحف ماتيس في نيس، كما تُجرى أبحاث موسعة حول تأثير الفن على الرفاهية في مختلف المدن الفرنسية.
تأثيرات الفن على الدماغ والصحة النفسية
ترى مؤرخة الفن ناتالي بونديل أن الثقافة في القرن الحادي والعشرين ستلعب الدور نفسه الذي لعبته الرياضة في القرن العشرين لصحتنا، وتشير الطبيبة النفسية كاثرين هاناك من مستشفى جامعة بروجمان في بروكسل إلى أن مشاهدة الفن تُطلق في الدماغ تأثيرًا مشابهًا للألعاب النارية الصغيرة، إذ يفرز الدوبامين ويولد إحساسًا فوريًا بالسعادة، هذا التأثير شبيه بما يحدث عند ممارسة الرياضة أو التنزه في الطبيعة، وفي هونغ كونغ، وزع متحف M+ أكثر من 10 آلاف تذكرة مجانية على طلاب الجامعات لمعرض الفنانة يايوي كوساما، التي تصف فنها بأنه وسيلة لشفاء البشرية.
أبحاث علمية ومشاريع مستقبلية واعدة
أظهرت دراسات في ألمانيا أن زيارة المتاحف تساعد في تخفيف الاكتئاب والخرف والشعور بالوحدة، بل وتفوقت أحيانًا على الأدوية من حيث الفعالية والتكلفة، وأوصى تقرير صادر عن الجامعة التقنية في دريسدن بإدراج هذه الزيارات ضمن الرعاية الصحية القياسية، وفي برلين، يُجري متحف بوده تجربة “متحف الشفاء” بالتعاون مع شبكة مستشفيات شاريتيه، حيث تُتاح غرف مخصصة للتأمل وتمارين الذهن أمام الأعمال الفنية، كما قيّمت منظمة الصحة العالمية أكثر من 3000 دراسة، وأكدت أن الفعاليات الفنية والثقافية تعزز الصحة الجسدية والنفسية وتساعد على التعافي، لكن الباحثين يؤكدون أن الفوائد الطبية لم تُثبت بعد بشكل قاطع، رغم أن التجارب الحالية تشير إلى نتائج واعدة قد تمنح المتاحف دورًا علاجيًا مهمًا في المستقبل.