في الآونة الأخيرة، انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي ظاهرة ملفتة أثارت جدلاً واسعاً، وهي عبارة عن صور مُعدلة تجمع بين الأحياء وأقاربهم الذين فارقوا الحياة، حيث غزت هذه الصور الصفحات والمجموعات، تظهر شباباً وفتيات وأطفالاً يضعون صور آبائهم أو أمهاتهم أو أشقائهم المتوفين بجانب صورهم الحالية، في محاولة لخلق لحظة افتراضية تعيد إليهم شيئاً من الدفء المفقود
هذا الاتجاه، الذي يحمل في طياته مزيجاً من الحنين والألم، أثار العديد من التساؤلات حول الدوافع النفسية الكامنة وراءه، وتأثيره على مشاعر الأشخاص الذين مروا بتجربة الفقد، للإجابة على هذه التساؤلات، تواصلت “اليوم السابع” مع الدكتور عبد العزيز آدم، الأخصائي النفسي، لفهم الدوافع العاطفية والنفسية التي قد تدفع الأفراد للانخراط في هذه الموجة، ومتى يمكن أن تشكل تهديداً لصحتهم النفسية
###
الذاكرة الإنسانية وحرمة الموت على المحك
أوضح الدكتور عبد العزيز آدم في حديثه لـ “اليوم السابع” أن هذه الخاصية الرقمية ظهرت حديثاً وتعتبر ظاهرة جديدة تثير الجدل، حيث تقوم بإحياء صور ومقاطع فيديو لأشخاص رحلوا عن عالمنا باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، قد يرى البعض في ذلك فعلاً يجلب السعادة والسرور، إلا أن هذا الترند المنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي ليس مجرد صيحة عابرة، بل يحمل انعكاسات نفسية واجتماعية وأخلاقية عميقة، مما يستدعي التوقف عنده والتفكير في مخاطره، خاصةً وأنه يتعامل مع أثمن ما نملك: “الذاكرة الإنسانية وحرمة الموت”
###
بين الحنين الصادق والوهم الزائف
وأضاف قائلاً: “الشوق للأحبة الذين فقدناهم هو شعور إنساني نبيل لا خلاف عليه، فمن الطبيعي أن يشتاق الإنسان لمن يحب، وأن يعود إلى صور تجمعه بهم، أو يستمع إلى تسجيلات صوتية تحتفظ ببعض من وجودهم، هذه الممارسات تعتبر صحية، لأنها تتيح للنفس مساحة للتذكر وتساعد على التأقلم مع الغياب”
لكن الخطر يكمن في تحول هذا الحنين الطبيعي إلى “وهم بصري”، حيث يتم إنتاج لحظات لم تحدث في الواقع، وإعادة تشكيل الراحلين في صور متحركة تبدو نابضة بالحياة، هنا يختلط الواقع بالخيال، ويصعب على العقل البشري التمييز بين الحقيقي والمصطنع، ومع تكرار مشاهدة هذه المقاطع، يصبح العقل أسيراً لوهم يعزز الإنكار ويعيق القدرة على التقبل
###
الحداد المتعثر ورحلة الحزن الدائرية
أشار الدكتور إلى أن “الحداد من منظور علم النفس هو عملية نفسية واجتماعية تمر بمراحل أساسية: الصدمة، الإنكار، الغضب، الحزن، ثم التقبل، هذه المراحل ليست ترفاً، بل ضرورة نفسية تمكن الإنسان من التكيف تدريجياً مع فكرة الفقد وإعادة بناء توازنه الداخلي، إلا أن إدخال صور أو مقاطع فيديو زائفة للراحلين يعيد الشخص مراراً إلى نقطة البداية: الإنكار، فبدلاً من مواجهة الحقيقة المؤلمة والاعتراف بالرحيل، يجد نفسه يستمد جرعات مؤقتة من الحضور الزائف، هذه الجرعات لا تشفي الجرح، بل تخدره مؤقتاً، لتعود الآلام أشد وأقسى مع كل مقطع جديد، وكأن الفرد يدخل في حلقة مفرغة من الحزن المستمر، بلا بداية للشفاء ولا نهاية للوجع”
###
العبث بالذاكرة العاطفية وتشويهها
وأوضح أن “الذاكرة الإنسانية ليست مجرد أرشيف صامت، بل هي مزيج حي من صور وأصوات ومشاعر وتجارب عاشها الفرد بالفعل، عندما نسمح للذكاء الاصطناعي بخلق صور جديدة أو مقاطع لم تحدث أبداً، فإننا ندخل إلى هذا النسيج مكونات دخيلة تشوه أصالته”
مع مرور الوقت، يبدأ التمييز بين ما عشنا events حقاً وما تم تصنيعه رقمياً في التلاشي، والنتيجة هي تلوث الذكريات الحقيقية بالأوهام، مما يجعل من الصعب الاحتفاظ بصورة نقية للراحلين، بدلاً من أن تكون الذكرى ملاذاً للراحة والسكينة، تتحول إلى مصدر ارتباك نفسي وتشويش عاطفي، يزيد من الألم بدلاً من تخفيفه
###
أبعاد أخلاقية واجتماعية: حرمة الموت وخصوصية الفقد
بعيداً عن الجانب النفسي، يثير هذا الترند تساؤلات أخلاقية هامة: الوفاء للمتوفين لا يكون باختلاق لحظات لم يعيشوها، بل بالحفاظ على صورتهم الحقيقية في الذاكرة، والتحدث عن أخلاقهم، ونقل محاسنهم، والدعاء لهم بالرحمة، أما عرض صور مزيفة على وسائل التواصل الاجتماعي، فغالباً ما يخدم الرغبة اللحظية في جذب الانتباه أكثر مما يعبر عن الوفاء الحقيقي
###
الوفاء الحقيقي: ما يبقى بعد الرحيل
الحزن على الفقد هو اختبار صعب، ولكنه أيضاً فرصة لتعلم الصبر والتسليم، التكنولوجيا، مهما بلغت من تطور، لا يمكنها أن تعوضنا عما فقدناه حقاً، بل تزرع فينا وهماً يضاعف الألم، الوفاء الحقيقي يكمن في استحضار القيم التي غرسها الراحلون فينا، والسير على خطاهم، والحفاظ على نقاء ذكراهم
إن استدعاء الأموات عبر شاشات الهواتف ليس سوى طريق مختصر إلى متاهة طويلة من الألم النفسي والاضطراب العاطفي، أما الطريق الأصيل فهو مواجهة الفقد بشجاعة، وترك مساحة للذاكرة كي تعيش كما هي: نقية، صادقة، بلا تزييف ولا إضافات