«إعادة تشكيل النظام المالي: مبادرة إماراتية تفتح آفاقًا جديدة»

تُكرّس دولة الإمارات العربية المتحدة ريادتها في التحول المالي العالمي عبر منظومة نقدية رقمية متكاملة تجمع بين «الدرهم الرقمي»، وهو مشروع سيادي يصدر عن «مصرف الإمارات المركزي» كعملة رقمية للبنك المركزي، و«العملة المستقرة المدعومة بالدرهم»، التي تطرحها مؤسسات مالية مرخصة لتخدم الاستخدامات التجارية والقطاع الخاص.

برنامج التحول المالي الشامل

ويأتي هذا التوجّه ضمن «برنامج التحول المالي الشامل» (FIT Program) الذي أطلقه المصرف المركزي عام 2023، مستهدفاً إعادة هندسة البنية التحتية للنظام النقدي الوطني على أسس من الكفاءة، والشفافية، والاستقرار.

التكامل بين العملتين

ويمثل التكامل بين العملتين، السيادية والمستقرة، تحولاً استراتيجياً في هندسة المنظومة النقدية الإماراتية، إذ يوفّر «الدرهم الرقمي» قاعدة تسويات مركزية تربط البنوك المركزية دولياً، فيما تتيح «العملة المستقرة» أدوات دفع رقمية فورية ومرنة تدعم القطاعات التجارية والمالية داخل الدولة وخارجها.

عصر جديد للمدفوعات الرقمية

تعد العملة المستقرة فئة متقدمة من الأصول المشفّرة التي تُربط بقيمة ثابتة، عادةً بعملة ورقية وطنية، بهدف تقليل تقلبات الأسعار وتحقيق استقرار نقدي رقمي مستدام.

ويرتبط النموذج الإماراتي مباشرةً بـ«الدرهم الإماراتي»، ليُقدّم نموذجاً مزدوج القوة: استقرار نقدي مستمد من قوة العملة الوطنية، وابتكار تقني نابع من منظومة البلوكتشين.

أما «الدرهم الرقمي»، فقد أوضح «مصرف الإمارات المركزي» في تقريره الصادر في يوليو أنه يمثل محوراً استراتيجياً لتطوير نظام دفع رقمي آمن وموثوق، يُمكّن المؤسسات المالية من إجراء معاملات شبه فورية، مدعومة ببنية تنظيمية متكاملة تضمن الامتثال، والرقابة، وإدارة المخاطر في الوقت الحقيقي.

ويُشكّل التوازي بين النموذجين نواة لاقتصاد رقمي متكامل قادر على دعم كلٍّ من القطاع المالي الرسمي والقطاع التجاري الخاص بكفاءة غير مسبوقة.

استقرار نقدي يُعيد صياغة ثقة السوق

تتميّز «العملة المستقرة» الإماراتية بقدرتها على إيجاد طبقة جديدة من الاستقرار النقدي داخل النظام المالي الرقمي، إذ تمنح الشركات والمستثمرين أداة تسوية رقمية يمكن الاعتماد عليها في إدارة السيولة، والميزانيات، والتجارة الدولية دون التعرض لتقلبات أسعار الصرف أو اضطرابات الأسواق.

ويمثّل هذا الثبات أساساً جوهرياً لتمكين التخطيط المالي طويل الأجل للشركات، لا سيّما تلك المنخرطة في التجارة عبر الحدود. كما يتناغم هذا المسار مع أهداف رؤية «نحن الإمارات 2031» الرامية إلى ترسيخ اقتصاد قائم على المعرفة والتقنيات المتقدمة، وتعزيز الاستقرار المالي كمكوّن أساسي للنمو المستدام.

كفاءة تشغيلية وتحوّل في سرعة السيولة

تُعاني الأنظمة المصرفية التقليدية من بطء التسويات، وتعقيد الإجراءات، وتكلفة الوساطة المالية، أما النظام الرقمي الجديد، فيُعيد هندسة تدفق الأموال عبر منظومة مدفوعات متصلة مباشرة بين الأطراف، ما يقلّل من كلفة المعاملات ويُضاعف سرعة الإنجاز.

وفقاً لبيانات «مصرف الإمارات المركزي»، تمكّنت التجارب العملية لمشروع «الدرهم الرقمي» من تقليص زمن التسوية من أيام إلى ثوانٍ معدودة، وهو ما يعزّز السيولة التشغيلية للشركات ويُخفّف القيود النقدية المفروضة على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة (SMEs) التي تمثل أكثر من 90٪ من نسيج الاقتصاد الوطني.

الشفافية والأمن في زمن التحول المالي

ترتكز العملة المستقرة على تقنية «البلوكتشين» التي تضمن سجلاً رقمياً غير قابل للتلاعب، يُوثّق كل معاملة على نحو فوري ودائم، هذه الطبيعة اللامركزية تُولِّد بنية رقابية ذاتية تُقلل من احتمالات الخطأ أو الاحتيال، وتُعزّز الثقة المؤسسية في النظام المالي.

في المقابل، يوفّر الإطار التنظيمي الذي تبنّاه «مصرف الإمارات المركزي» ضمن «استراتيجية العملة الرقمية للبنك المركزي» (CBDC Strategy) منظومة متقدمة للضوابط الخاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وتعزيز الأمن السيبراني.

وبذلك يجمع النظام النقدي الجديد بين الشفافية التقنية التي تقدمها العملات المستقرة والرقابة التنظيمية الصارمة التي يفرضها الإطار السيادي لـ«الدرهم الرقمي».

منصة جديدة للتجارة العابرة للحدود

في سياق التحوّل العالمي نحو المدفوعات الفورية والتسويات عبر البنوك المركزية، تشكّل مشاركة الإمارات في مشروع «الجسر للعملات الرقمية المتعددة للبنوك المركزية» (mBridge) خطوة استراتيجية فارقة.

هذا المشروع، الذي يربط بين «مصرف الإمارات المركزي» وبنوك مركزية في الصين وتايلاند وهونغ كونغ تحت إشراف «بنك التسويات الدولية» (BIS)، أظهر أن تسويات المدفوعات التي كانت تستغرق أياماً باتت تُنجز في ثوانٍ، ما يُعيد تعريف كفاءة التجارة الدولية.

ويمنح الدمج بين العملة المستقرة الوطنية وشبكات «العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية» (CBDC) متعددة الأطراف الإمارات موقعاً ريادياً في بناء جسر نقدي إقليمي قادر على تحويل الدولة إلى محور للتسويات العابرة للحدود في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

تكامل مصرفي ذكي وبنية مالية هجينة

تم تصميم العملة المستقرة الإماراتية لتعمل في انسجام تام مع الأنظمة المصرفية القائمة، وليس بمعزل عنها، فهي تمكّن البنوك وشركات التكنولوجيا المالية من تطوير تطبيقات جديدة، مثل المحافظ الرقمية، وأنظمة التسوية الآلية، والعقود الذكية، لتوسيع نطاق الخدمات المالية الرقمية وتعزيز كفاءة العمليات الحكومية والتجارية.

ويُعد هذا التكامل أحد أهم عناصر القوة في المنظومة النقدية الجديدة، إذ يسمح بتحوّل تدريجي ومنظم نحو الاقتصاد الرقمي دون تعطيل البنية التقليدية أو المخاطر النظامية.

نحو نظام نقدي رقمي عالمي

يتجاوز أثر هذه المبادرة حدود السوق المحلية ليشمل النظام المالي العالمي، فمن خلال مشاريعها الرقمية وتعاونها مع المؤسسات الدولية الكبرى، تُسهم الإمارات في تشكيل الإطار المعياري لتنظيم العملات المستقرة والعملات الرقمية السيادية، ما يعزز دورها في صياغة مستقبل التمويل الدولي.

كما تفتح هذه التطورات الباب أمام تطبيقات الجيل القادم من الاقتصاد، مثل الاقتصاد القائم على الجيل الثالث من الإنترنت «ويب 3» (Web3)، و«الميتافيرس» (Metaverse)، ما يرسّخ موقع الإمارات كإحدى أوائل الدول التي تمتلك عملة وطنية قادرة على أداء وظائف الدفع والتسوية في البيئات الافتراضية والاقتصادات اللامركزية.

وبهذا، لا يُختزل إطلاق «الدرهم الرقمي» وتطوير «العملة المستقرة المدعومة بالدرهم» في كونهما إنجازين تقنيين منفصلين، بل يمثلان معاً تحولاً استراتيجياً في البنية النقدية والمالية لدولة الإمارات.

فمن خلال الجمع بين السيادة النقدية التي يوفرها «الدرهم الرقمي» والمرونة التشغيلية التي تقدمها «العملة المستقرة»، ترسّخ الإمارات نموذجاً مالياً متقدماً يجمع بين الابتكار والامتثال، ويُعيد رسم خريطة التمويل في المنطقة والعالم نحو نظام مالي أكثر كفاءة واستقراراً وشمولاً رقمياً.

[related_news]