إن انتهاء أي علاقة يمثل ضغطاً نفسياً كبيراً، ومن الطبيعي أن يؤثر ذلك على صحتك النفسية، وغالباً ما ينصحك الأصدقاء المقربون، بدافع حرصهم، بعدم التسرع في علاقة جديدة، خصوصاً إذا كان الطرف الآخر يذكرك بشريكك السابق، خوفاً من تكرار التجربة المؤلمة،
على الرغم من أن البدء بعلاقة جديدة بعد انتهاء أخرى قد يثير بعض التحفظات الاجتماعية، تشير الدراسات إلى أن هذه الخطوة قد تكون مفيدة للتعافي في بعض الحالات،
ولكن لماذا لا تزال هذه النظرة موجودة؟ وكيف يمكن بناء علاقة جديدة تساعد حقاً في تجاوز آثار العلاقة السابقة؟ وما مدى تأثير الارتباط بشخص يحمل صفات تذكرنا بالحبيب السابق؟
تقول كلوديا برومبو، الخبيرة في علم النفس والتي تجري أبحاثاً حول العلاقات بين البالغين في إحدى الجامعات الأمريكية، إن “الأشخاص الذين يبادرون بالدخول في علاقات جديدة يتمتعون بحياة عاطفية أفضل”،
في استعراضها لنتائج دراسة حول الحالة النفسية لأشخاص مروا بتجارب عاطفية فاشلة، أشارت الباحثة برومبو إلى أن هؤلاء الأشخاص كانوا “أكثر ثقة بأنفسهم، وشعروا بأنهم محبوبون ومرغوب فيهم، كما زاد لديهم الإحساس بالاستقلالية”،
توضح برومبو أن الاعتقاد الشائع بضرورة الانتظار لفترة قبل الدخول في علاقة جديدة، وأن العلاقات التي تهدف إلى تجاوز علاقة سابقة تكون قصيرة الأجل، لا يستند إلى أساس علمي قوي، بل على العكس، تشير الأبحاث إلى أن المضي قدماً نحو علاقة جديدة قد يكون الخيار الأفضل،
في دراسة شملت أشخاصاً انفصلوا مؤخراً عن شركائهم، ذكر الذين دخلوا علاقات جديدة بسرعة أنهم شعروا بسعادة وثقة أكبر، وقلق أقل،
يعزى ذلك إلى أن الفترة الزمنية القصيرة بين العلاقتين ساعدت في الحفاظ على توازنهم العاطفي، مما سمح لهم بالانتقال بسلاسة من تجربة إلى أخرى دون الشعور بالانهيار،
مع ذلك، غالباً ما يكون الأشخاص الذين يسارعون بالارتباط من جديد للتعافي من آثار الانفصال يعانون من مشاكل تتعلق بعدم الشعور بالأمان في العلاقة السابقة،
هل تصبح أكثر نضجاً بعد انتهاء علاقتك العاطفية؟
من الأسباب الشائعة لتبرير التريث قبل الدخول في علاقة جديدة هو حاجة الشخص إلى وقت للتعافي واكتساب النضج قبل البدء في علاقة أخرى،
ولا شك أن هذا المنطق يحمل بعض الصحة، فالأشخاص الذين مروا بتجارب عاطفية فاشلة غالباً ما يشيرون إلى أنهم تطوروا نفسياً وعاطفياً، واكتسبوا شعوراً أكبر بالاستقلالية والثقة،
لكن المشكلة تكمن في أن هذا النوع من “النضج” يصعب قياسه، فهو يعتمد بشكل كبير على ما يقوله الشخص عن نفسه، وليس على معطيات ملموسة،
والمفاجئ أن الدراسات التي بحثت في تأثير التجارب الصادمة أو المؤلمة على تطور الإنسان تشير في معظمها إلى أن هذه الأحداث لا تؤدي بالضرورة إلى تغييرات جوهرية في الشخصية،
يعود ذلك إلى ما يسمى في علم النفس “بالأوهام الإيجابية”، وهو تحيز معرفي يجعلنا نبالغ في تقدير مدى تطورنا بعد التجارب الصعبة، وذلك كوسيلة لحماية صورتنا الذاتية،
يشرح تاي تاشيرو، خبير علم النفس ومؤلف كتاب “علم السعادة الدائمة”، هذه الفكرة قائلاً: “قد يؤدي الانفصال إلى خدش الإحساس بتقدير الذات، لذلك فإن إقناع النفس بأنك أصبحت أكثر استقلالية بعد انتهاء العلاقة يساعدك على التوازن النفسي، وقد لا يكون ذلك صحيحاً تماماً، لكن هذا التصور يقلل من شعورك بالألم”،
تشير الدراسات التي أجراها تاي تاشيرو خلال عمله في جامعة ميريلاند إلى أن اختبارات النضج العقلي والعاطفي وتطور الشخصية لم تظهر أي فروق ملحوظة، سواء وجد الشخص شريكاً جديداً بسرعة، أو انتظر فترة أطول بعد الانفصال،
بمعنى آخر، الانتظار قبل الدخول في علاقة جديدة لا يضمن بالضرورة تطوراً أكبر في الشخصية أو نضجاً أعمق،
ومع ذلك، قد يقنع الإنسان نفسه بأنه أصبح أكثر نضجاً، حتى لو لم يكن ذلك دقيقاً على أرض الواقع،
يشير تاشيرو إلى أن تصورنا لمستوى نضجنا بعد الانفصال يرتبط غالباً بالطريقة التي نفسر بها سبب فشل العلاقة السابقة، فهل نلوم أنفسنا، أم الطرف الآخر، أم الظروف الخارجية؟
أظهرت الدراسات أن الأشخاص الذين أرجعوا سبب فشل العلاقة إلى عوامل خارجية، مثل ضغوط العمل أو عدم التوافق مع عائلة الشريك، شعروا بأنهم تطوروا بشكل أكبر بعد الانفصال،
في المقابل، الأشخاص الذين حملوا أنفسهم مسؤولية الفشل كانوا أقل شعوراً بالنضج أو التغيير الإيجابي، ويبدو أن النضج الحقيقي يرتبط بالدروس المستفادة من التجربة العاطفية، وليس بمدة الفترة بين علاقتين،
يقول تاشيرو إن أحد أفضل الأمثلة التي صادفها كان رجلاً قال له: “تعلمت من علاقتي السابقة أن أقول آسف”،
ويعلق الباحث: “أعجبني هذا الجواب لأنه بسيط وصادق، ومثل هذا الدرس الصغير يمكن أن يحدث فرقاً حقيقياً في كل علاقة يخوضها لاحقاً”،
الشعور بالارتباط بشخص ما
يمكن فهم اعتمادنا على الآخرين للحصول على الدعم العاطفي من خلال “نمط الارتباط” الذي يميز علاقاتنا، وتتأثر الطريقة التي نطلب بها الدعم العاطفي بمدى شعورنا بالأمان أو القلق أو الميل إلى الانطواء،
غالباً ما يؤدي تعامل الوالدين مع الطفل باستمرار في مرحلة الطفولة إلى تكوين شعور بالأمان في العلاقات العاطفية مستقبلاً، وفي هذه الحالة، يميل الشخص إلى الثقة بالآخرين واللجوء إلى الأصدقاء أو أفراد الأسرة للحصول على الدعم،
لكن نظرية الارتباط العاطفي تصبح أكثر تعقيداً عندما يكون الفرد منخرطاً في علاقات لا يشعر فيها بالأمان، فالأشخاص الذين مروا بتجارب غير مستقرة يميلون إلى الدخول في علاقات جديدة بسرعة، لكن بدوافع مختلفة عن أولئك الذين يتمتعون بعلاقات مستقرة،
فالقلق العاطفي قد يؤدي إلى التعلق المرضي بالشريك السابق، أو إلى ردود أفعال انتقامية على الجروح العاطفية، ويعاني أصحاب هذا النمط من مستويات أعلى من الضغط النفسي والجسدي، وقد يلجأون إلى أقصى الحدود لإحياء العلاقة السابقة،
في المقابل، يعرف الأشخاص الانطوائيون بقدرتهم على الاعتماد على أنفسهم، وغالباً لا يفكرون في شركائهم السابقين عند المضي قدماً، وعلى الرغم من ميلهم إلى تجنب الحميمية، فإن ذلك لا يمنعهم من الدخول في علاقات عاطفية،
تقول خبيرة علم النفس كلوديا برومبو: “غالباً ما يشعر القلقون بالغيرة، ويتشبثون بالحصول على الاهتمام دون تقديمه في المقابل، أما الانطوائيون، فيتجنبون الحميمية ويفضلون الانغماس في العمل، على الرغم من أنهم لا يمانعون في إقامة علاقات عاطفية”،
تظهر الدراسات أن أسلوب الوالدين في معاملة الطفل قد يؤثر على نمط الارتباط لديه في المستقبل، لكن هذا النمط ليس قدراً محتوماً، فالدخول في علاقة مع شريك حنون ومستقر عاطفياً يمكن أن يعدل من هذا النمط ويؤدي إلى علاقات أكثر أماناً، ومع ذلك، تشير بعض الأبحاث إلى أن أنماط الارتباط قد تكون موروثة جزئياً، مما يحد من مدى قابليتها للتغيير،
غالباً ما يعيد الناس إنتاج نمط الارتباط نفسه عند بدء علاقة جديدة، خاصة عندما يكون الشريك الجديد مشابهاً للشريك السابق في الشخصية والطباع، وقد يسقط الشخص انطباعاته عن شريكه السابق على الشريك الجديد، حتى لو لم تكن هناك أوجه تشابه حقيقية،
وتعلق برومبو قائلة: “يحب الناس الاتساق، ولهذا يميلون إلى اختيار شركاء يشبهون من أحبوهم سابقاً، وقد أظهرت الأبحاث أن الأشخاص الذين يتعافون بسرعة من علاقاتهم الفاشلة هم من شعروا أن الشريك الجديد يشبه الشريك السابق، ولكن هذا التشابه غالباً ما يكون تصوراً شخصياً، وليس حقيقة مثبتة بالأدلة”،
يميل طرفا أي علاقة عاطفية إلى تبني مفاهيم مشتركة حول أنفسهما، بحيث يرى كل منهما الآخر جزءاً من هويته، كما يتشاركان الأصدقاء والهوايات، وهو ما يجعل الانفصال تجربة مربكة نفسياً، إذ يشعر كل طرف وكأنه فقد جزءاً من ذاته، أو خسر شخصاً يشاركه اهتماماته الخاصة،
من العوامل التي قد تساعد في تجاوز العلاقة السابقة السعي إلى الارتباط بشريك جديد يلبي بعض الاحتياجات العاطفية التي كان الشريك السابق يوفرها،
لكن تصور وجود أوجه تشابه بين الشريكين القديم والجديد يحمل في طياته إيجابيات وسلبيات، خاصة عندما يكون هذا التشابه مبنياً على تصورات شخصية لا على وقائع ملموسة،
توضح خبيرة علم النفس كلوديا برومبو هذه الفكرة قائلة: “إذا كان لدى شريكي الحالي، ولنفترض أنه بوب، شيء يذكرني بشريكي السابق سام، فقد أبالغ في الافتراضات حول شخصية بوب”،
وتضيف “إذا كان سام طاهياً ماهراً ورومانسياً، فقد أعتقد تلقائياً أن بوب سيكون كذلك أيضاً، وعندما لا يتصرف بوب بالطريقة نفسها، قد أشعر بخيبة أمل، حتى لو كان رومانسياً بالفعل، ولكن بأسلوب مختلف”،
في نهاية المطاف، يبدو واضحاً أن الدخول في علاقة عاطفية بهدف التعافي من علاقة فاشلة لا يعتبر بالضرورة “العلاج المثالي للقلب المكسور”،
ومع ذلك، لا بأس من أن يشجعك أصدقاؤك على المضي قدماً في هذا الاتجاه، إذ قد تتحقق بعض الفوائد النفسية من هذه الخطوة،
فالفشل العاطفي غالباً ما يكون تجربة مؤلمة، ولا يمكن الجزم بأن الإسراع في بدء علاقة جديدة بعده قرار متسرع بالضرورة،