اجتمعت المجموعة الوطنية للجفاف في المملكة المتحدة منتصف الشهر الماضي، معلنة أن نقص المياه الحالي في إنجلترا تحول إلى حالة طوارئ وطنية، وصرحت هيلين ويكهام، مديرة المياه في وكالة البيئة ورئيسة مجموعة التنمية الوطنية للصحافة البريطانية، بأن الوضع الحالي ذو أهمية وطنية، داعية الجميع إلى القيام بدورهم والمساعدة في تقليل الضغط على البيئة المائية,
ولمحت ويكهام إلى أن دور المواطن هو المفتاح لحل أزمة الجفاف، لكن اللافت للنظر كان في طريقة ترشيد استهلاك المياه، حيث أشارت إلى أن الخيارات اليومية البسيطة، مثل إغلاق صنبور الماء أو حذف الرسائل الإلكترونية القديمة، تساعد بشكل جماعي في تقليل الطلب على المياه والحفاظ على صحة الأنهار والحياة البرية, و قد يبدو الأمر غريبا، لكن فكرة حذف رسائل البريد الإلكتروني القديمة كحل لأزمة نقص المياه أثارت جدلا واسعا، فهل هذا التصريح منطقي، أم أنه ضرب من الخيال كما وصفه البعض؟
كيف يساهم حذف البريد الإلكتروني في توفير المياه؟
وفقًا لصحيفة “ميترو” البريطانية، يتلقى الشخص العادي حوالي 121 رسالة بريد إلكتروني يوميًا، معظم هذه الرسائل لا تُقرأ وتبقى مخزنة في السحابة الإلكترونية، وتعتمد خدمات التخزين هذه على مراكز بيانات ضخمة مليئة بالأقراص الصلبة، التي تستهلك بدورها كميات كبيرة من الطاقة,
ويتطلب تبريد هذه المراكز كميات هائلة من المياه، حيث قد تستهلك بعض المراكز الكبيرة ما يصل إلى 22 مليون لتر من الماء يوميًا، أي ما يعادل استهلاك منطقة يقطنها 10 آلاف شخص، ومع تفاقم تغير المناخ وارتفاع درجات الحرارة في إنجلترا وجفاف المياه، لم يعد المسؤولون متأكدين من مصدر كل هذه المياه,
ولمساعدة شركات المياه على التعامل مع أزمة الجفاف، قامت بعض الشركات مثل “يوركشاير ووتر” و”ثيمز ووتر” وغيرها بحظر استخدام الخراطيم لتقليل استهلاك العملاء, وتعليقًا على ذلك، قالت الدكتورة جيس نيومان، الأستاذة المشاركة في علم الهيدرولوجيا بجامعة ريدينغ، إن نجاح حظر الخراطيم يعتمد على التزام الناس، حيث يمكن أن يقلل التزامهم الاستهلاك بنسبة 3-8%، مؤكدة أن هذه الإجراءات تزيد الوعي بأهمية ترشيد استخدام المياه، فالأفعال الصغيرة يمكن أن توفر كميات كبيرة من المياه,
ومن هذا المنطلق، ترى الحكومة البريطانية أن الإجراءات البسيطة، مثل حذف البريد الإلكتروني والصور القديمة، يمكن أن تقلل ما تُخزنه مراكز البيانات، مما يقلل بدوره من الحرارة الناتجة عنها ويقلل الحاجة لاستهلاك المياه في التبريد,
ماذا يقول الخبراء؟
صرح غاري بارنيت، المحلل المخضرم في مراكز البيانات وكبير المحللين التقنيين في شركة الاستشارات “غلوبال داتا”، لصحيفة “ذا تايم” البريطانية، بأن اقتراح وكالة البيئة يشتت الانتباه عن الإجراءات الفعالة لمواجهة الجفاف، معتبرا أنه من “الغبي جدًا” القول إن حذف الرسائل الإلكترونية قد يساعد في حل أزمة الجفاف، ومضيفًا أن الناس سيتوجب عليهم حذف عشرات الآلاف من الرسائل الإلكترونية لمعادلة ثانية واحدة إضافية في الاستحمام,
وبحسب تقديرات بارنيت، فإن تخزين 5 غيغابايت من البيانات -أي ما يعادل عشرات آلاف الرسائل الإلكترونية- يحتاج إلى 79 مليلترا فقط من المياه لتبريد مراكز البيانات، وأشار إلى أن الاستحمام لمدة ثانية واحدة يستهلك ما بين 10 و15 لترا من الماء، وبالتالي، إذا أنهيت استحمامك قبل ثانية واحدة فقط، فإنك توفر ما يكفي من الماء لتبريد 5 غيغابايت من البيانات,
وذكر بارنيت أنه منزعج لأن الحكومة وضعت قائمة بالطرق المعقولة التي ترشد الناس لتوفير المياه، مثل تجنب ري الحدائق وإصلاح المراحيض التالفة وإغلاق الصنبور أثناء تنظيف الأسنان، لكنها أضافت هذه “الحماقة” في النهاية، معتبرا أن المشكلة تكمن في أن “عندما يقولون شيئًا سخيفًا كهذا، فإنه يشتت الانتباه عن الرسالة الأساسية”,
ومع تزايد عدد سكان بريطانيا، قدّرت وكالة البيئة أن البلاد قد تواجه نقصًا يبلغ 5 مليارات لتر من المياه يوميًا بحلول عام 2055، ولتجنب هذا النقص، أوصت الوكالة الناس بتقليل استهلاكهم اليومي للمياه بمقدار 15 لترا ليصل إلى 110 لترات يوميًا، وقدرت الحكومة أن حذف ألف رسالة بريد إلكتروني مع المرفقات سيوفر 0,2 لتر من الماء يوميًا,
وتستهلك مراكز البيانات في بريطانيا ما يقارب 10 مليارات لتر من المياه سنويًا على الأقل، لكن بارنيت جادل بأن تخزين الرسائل الإلكترونية من بين أقل الأنشطة استنزافًا للمياه، قائلًا: “صحيح أن مراكز البيانات الضخمة ستفرض طلبات كبيرة جدًا على شبكات الطاقة وعلى إمدادات المياه، لكنني لا أعتقد أن صور عيد ميلاد الجدة هي السبب”,
ومن جهته، قال كريس بريست، أستاذ الاستدامة وأنظمة الحوسبة في جامعة بريستول، إن العديد من رسائل البريد الإلكتروني المرسلة في بريطانيا تُخزن في مراكز بيانات في دول أخرى، مما يستنزف المياه في أماكن أخرى، معتبرا أن حذف رسائل البريد الإلكتروني من المرجح أن يزيد من استهلاك المياه، لأن الوصول إلى البريد الإلكتروني يستهلك طاقة أكبر من تخزينه,
انتقادات واسعة لقرار الحكومة البريطانية
لاحظ بعض الناشطين أن هذه التوصية تبدو “فارغة” بعض الشيء عند مقارنتها بالتزام حكومة المملكة المتحدة بتسريع النمو باستخدام الذكاء الاصطناعي، ورغم أن مراكز البيانات تستهلك كميات كبيرة من المياه من خلال التبريد، فإن الغالبية العظمى من استهلاك الطاقة هذا يأتي من عمليات حساب وحدات المعالجة المركزية ووحدات معالجة الرسومات، وليس من تخزين الصور ورسائل البريد الإلكتروني,
وامتلأت منصات التواصل -أبرزها منصة “ريديت”- بانتقادات لاذعة، إذ قال مستخدم يُدعى وكافينسكي “المشكلة ليست في رسائل البريد الإلكتروني لأنني ما زلت أتلقى رسائل إلكترونية منذ 20 عامًا، ولكن مشكلة نقص المياه ناتجة عن تسرب مليارات اللترات من الأنابيب كل يوم، وهو أمر يزداد يومًا بعد يوم”,
وقال مستخدم يدعى كوبلماو: “احذف ذكرياتك حتى لا تضطر إلى الاستثمار في الخزانات”، وقال آخر: “يستهلك مركز البيانات ما بين 11 مليونًا و19 مليون لتر من المياه يوميًا، وشركة “ثيمز ووتر” فقدت وحدها 570,4 مليون لتر من المياه في عام 2024، أي ما يزيد قليلًا عن 30 مركز بيانات تعمل بكامل طاقتها، تُفقد يوميًا بسبب التسريبات من قبل شركة مياه واحدة فقط، وهذا يسلط الضوء على المشكلة الحقيقية”,
وقال جيريمي ألبرتس مستندًا إلى موقع “أنديماسلي,سابستاك” “لتوفير 39 لترًا من الماء، ستحتاج إلى حذف حوالي 81 مليونًا و510 آلاف رسالة بريد إلكتروني، وهذا غير منطقي بتاتًا”,