في طوكيو، لم تكن الساعة قد تجاوزت التاسعة صباحًا حين أُغلقت أبواب متجر “نيهون ماتيريال” أمام طوابير طويلة من المشترين للذهب، فبعد ساعة واحدة فقط من افتتاحه، أعلن الموظفون نفاد الكمية المخصصة لذلك اليوم.
من بين الواقفين في الصف كان المهندس المعماري كينجي أونوكي، الذي شعر بسعادة غامرة بعدما تمكن من شراء سبيكته الذهبية الأولى، رغم أنه سيضطر إلى الانتظار شهرًا لتسلمها، وقال مبتسمًا للصحفيين: “أردت شيئًا حقيقيًا، شيئًا يمكنك أن تمسكه بيدك”.
لكن هذه اللحظة الفردية في أحد متاجر طوكيو تحولت إلى ظاهرة عالمية غير مسبوقة، فمن آسيا إلى أوروبا وأميركا، يشهد العالم ما وصفته صحيفة فايننشال تايمز بـ”حمّى الذهب الكبرى”، حيث تتزايد موجات الشراء بشكل محموم، لا من قبل المستثمرين المحترفين فقط، بل من الأفراد العاديين أيضًا، في مشهد يعيد المعدن الأصفر إلى صدارة المشهد المالي العالمي.
العالم يتزاحم على المعدن الأصفر
توفر فايننشال تايمز توضيحًا بأن الذهب “أعاد سحره القديم إلى عقول وقلوب المستثمرين”، بعد ارتفاع متواصل على مدى ثلاث سنوات، تقوده هذه المرة البنوك المركزية في الدول النامية الباحثة عن ملاذ آمن بعيدًا عن الدولار الأميركي، فخلال الربع الثالث وحده، تدفق أكثر من 26 مليار دولار إلى صناديق المؤشرات المدعومة بالذهب، في رقم قياسي لم يشهد له التاريخ الحديث مثيلًا، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الذهب بأكثر من 50% منذ بداية العام، لتتجاوز الأونصة حاجز 4000 دولار في أعلى مستوى تاريخي منذ عام 1979.
وتشير الصحيفة إلى أن هذا الصعود المذهل لا يمكن تفسيره فقط بأسعار الفائدة أو التضخم، بل يرتبط بشيء أعمق، هو “الخوف من انهيار مالي شامل”.
ويؤكد ديفيد تيت، الرئيس التنفيذي لمجلس الذهب العالمي، أن “الخوف من أزمة ديون خارجة عن السيطرة هو المحرك الأساسي لهذه الطفرة، فالخوف هو الكلمة المفتاح في قصة الذهب اليوم”.
اليابان تشهد اندفاعة تاريخية
في اليابان، تجاوز سعر الغرام الواحد من الذهب حاجز 20 ألف ين (نحو 131 دولارًا) للمرة الأولى في التاريخ، ما أثار موجة شراء محمومة، وتصف فايننشال تايمز هذا المشهد بأنه “انفجار ذهبي” غيّر نظرة اليابانيين إلى المال بعد عقود من الانكماش.
ويقول بروس إيكيمازو، مدير جمعية سوق الذهب اليابانية: “سلوك المستثمرين تغيّر تمامًا، الناس يشعرون بتأثير التضخم وضعف الين، ويدركون أن عدم التحرك يعني خسارة أكيدة”.
البنوك المركزية تعيد تشكيل النظام النقدي العالمي
في خلفية هذا الهوس الشعبي، هناك تحوّل استراتيجي عالمي تقوده البنوك المركزية، فمنذ عام 2022، بدأت العديد من الدول، خاصة في آسيا والشرق الأوسط، بشراء كميات قياسية من الذهب لتقليص اعتمادها على الدولار، وبحسب مجلس الذهب العالمي، ارتفعت حصة الذهب من احتياطيات البنوك المركزية من 10% قبل عقد إلى نحو 24% بحلول منتصف 2025، أي ما يعادل 3.9 تريليونات دولار من القيمة السوقية، لتتجاوز لأول مرة قيمة السندات الأميركية المحتفظ بها خارج الولايات المتحدة.
وترى الصحيفة أن “الذهب أصبح فعليًا الأصل الاحتياطي المهيمن في العالم خارج أميركا”، معتبرة ذلك عودة رمزية إلى ما قبل هيمنة الدولار.
ترامب والديون الأميركية.. شرارة جديدة للرالي
تضيف فايننشال تايمز أن التدخل السياسي في عمل الاحتياطي الفدرالي الأميركي زاد من اشتعال الأسعار، فالرئيس دونالد ترامب يضغط لخفض الفائدة لتقليل كلفة خدمة الدين العام الذي تجاوز 34 تريليون دولار، وقد تسببت تصريحاته ضد بعض أعضاء مجلس الاحتياطي في قفزات فورية بسعر الذهب.
وتقول روث كرويل، الرئيسة التنفيذية لرابطة سوق لندن للسبائك: “مجرد الشك في استقلال الفدرالي كافٍ لدفع المستثمرين إلى الاحتماء بالذهب”.
الخوف يقود الأسواق
يقول غريغ فريث، مدير تجارة المعادن في شركة “غنفور”: “كلما انخفض السعر قليلاً، تدفقت موجات جديدة من الشراء، لا أحد يريد أن يفوّت القطار”، وتصف الصحيفة هذه الظاهرة بأنها “فومو مطلي بالذهب”، أي الخوف من تفويت الفرصة في سوق متسارعة.
علامات الفقاعة تلوح في الأفق
تحذر فايننشال تايمز من أن هذا الاندفاع قد يخلق فقاعة مالية، إذ تجاوز الذهب متوسطه المتحرك لـ200 يوم بنسبة 20%، ولم يحدث هذا إلا ثلاث مرات منذ السبعينيات، تلاها جميعًا تصحيح حاد، ويقول غاي ميلر من شركة “زيورخ إنشورنس”: “الخطر الآن أن المستثمرين هم من يصنعون الفقاعة التي يخشون منها”.
ما وراء الهوس.. أزمة ثقة عالمية
تشير الصحيفة إلى أن صعود الذهب هذه المرة لا يتعلق بالتضخم فقط، بل بفقدان الثقة في النظام المالي العالمي، وفي الدولار الأميركي نفسه، ويقول المستثمر الأميركي مات ماكليلان: “حين ترتفع أسعار الذهب والأسهم معًا، فهذه إشارة إلى أن قيمة المال نفسه بدأت تتراجع”، ويضيف دانيال تايلور من شركة “مان نوميريك”: “الناس يشترون أصولًا ذات معروض محدود كالذهب والبيتكوين لأن الورق لم يعد مطمئنًا”.
تاريخ يعيد نفسه
ورغم الارتفاع الهائل، يذكّر الخبراء بأن الذهب شهد من قبل موجات صعود وهبوط مشابهة، كما حدث في السبعينيات وبعد عام 2011، لكن ديفيد تيت يرى أن الوضع الحالي مختلف، لأن العالم يعيش “مزيجًا غير مسبوق من الديون والاضطرابات الجيوسياسية وانعدام الثقة بالعملة”، ويختتم التقرير بتأكيد أن الذهب لا يدر دخلًا ولا ينتج شيئًا، لكنه بات مرآة تعكس قلق العالم، وكلما ازداد القلق، ازداد بريق المعدن الأصفر.
