يُعرف بيل غيتس، مؤسس مايكروسوفت، بشغفه الكبير بالقراءة، فهو يمتلك مكتبة خاصة تضم كتبًا نادرة اختارها له بائع كتب متخصص، وفي عام 1994، قام غيتس بشراء مخطوطة ليوناردو دافنشي الشهيرة باسم “مخطوطة ليستر” (Codex Leicester)، التي تعود إلى القرن السادس عشر، وقد دفع مقابلها 30.8 مليون دولار في مزاد علني، مما جعلها أغلى كتاب بيع في التاريخ.
كُتبت المخطوطة بين عامي 1506 و1510، وتتألف من 72 صفحة تقدم نظرة فريدة إلى عقل دافنشي، وتحتوي على رسومات، ومخططات، ومسودات لأفكاره، وتُعتبر مخطوطة ليستر واحدة من حوالي 30 دفترًا علميًا يُعتقد أن دافنشي ألّفها، ولكن يعتبرها الكثيرون الأهم على الإطلاق.
النص في المخطوطة مكتوب باللغة الإيطالية القديمة بأسلوب دافنشي المميز والمعكوس، أي أن الكلمات تُقرأ من اليمين إلى اليسار، ويركز بشكل أساسي على أفكار دافنشي المتعلقة بالماء، مثل المد والجزر، والدوامات، والسدود، بالإضافة إلى العلاقة بين القمر، والأرض، والشمس.
يشكل خط ليوناردو الدقيق، والمكتوب باللغة الإيطالية القديمة والمعكوسة، تحديًا كبيرًا للقراء، كما أن الرسوم، التي يبلغ عددها 300 رسمة مرسومة بالحبر البني على حواف الدفتر، صعبة الفهم لأنها صغيرة ومزدحمة، ولمعالجة هذه المشكلة، أعلن مؤسس مايكروسوفت في عام 2018 عن مشروع “كودسكوب” (Codescope)، وهو نظام تفاعلي مزود بشاشة لمس تتيح استكشاف “مذكرة ليستر”، ومن خلاله يمكن التعرف على تاريخ المخطوطة، ورؤية كل صفحة من كتابات ليوناردو الأصلية، والحصول على ترجمة فورية، وحتى مشاهدة نسخ متحركة من رسوماته.
وكتب غيتس في منشور يعلن فيه عن المشروع: “بما أنه لا يمكنك لمس المخطوطة نفسها – فهي محفوظة خلف زجاج – فإن (كودسكوب) هو أفضل بديل لتقليب الصفحات التي خطّ عليها هذا الرجل العظيم”.
بالنسبة لغيتس، فإن طريقة ليوناردو في التفكير أصبحت فنًا ضائعًا في أيامنا هذه، على الرغم من أننا نعيش في عصر مقالات ويكيبيديا المجانية وفيديوهات يوتيوب.
المسار التاريخي.. من ليوناردو دافنشي إلى بيل غيتس
بعد وفاة ليوناردو دافنشي عام 1519، انتقلت المخطوطة إلى تلميذه المخلص فرانشيسكو ميلزي، الذي نقل جميع مخطوطات معلمه إلى منطقة في فابريو دادا بالقرب من ميلانو الإيطالية، وبعد وفاة ميلزي، لم يدرك ابنه ووريثه أورازيو ميلزي أهمية مخطوطات ليوناردو، فألقاها في العلية، بحسب مجلة اليونسكو.
بسبب إهمال أورازيو، استطاع ليليو غافاردي – مدرس في بيت ميلزي – الحصول على 13 مخطوطة من مخطوطات ليوناردو بسهولة، وأخذها إلى فلورنسا آملاً في بيعها للدوق فرانشيسكو دي ميديتشي بسعر مرتفع، ولكن أحد مستشاري الدوق نصحه بعدم الانشغال بهذه المخطوطات، لذلك لم تتم الصفقة.
بعد فشل محاولة البيع، قرر غافاردي التخلي عن فكرة البيع، وطلب من صديقه أمبروجيو مازينتا إعادة المخطوطات إلى أورازيو ميلزي في ميلانو، لكن الأخير لم يرغب بالمخطوطات (وفقًا لما ورد في مذكرات مازنتا)، وأعادها لمازينتا كهدية، لأنه تفاجأ بالجهد الذي بذله لإعادتها.
وهنا ظهر بومبيو ليوني، وهو نحات البلاط لفيليب الثاني ملك إسبانيا، إذ تمكن من الحصول على العديد من المخطوطات مقابل وعود شخصية وحماية، وفي عام 1590، تمكن من الحصول على جميع مخطوطات دافنشي.
بحسب صحيفة نيويورك تايمز، فإن أول تقرير معروف عن هذه المخطوطة يعود إلى عام 1690، عندما وجد جوزيبي غيتزي – وهو رسام إيطالي – المخطوطة في روما داخل صندوق يحتوي على مخطوطات ورسومات أخرى تخص غولييلمو ديلا بورتو، وهو نحات من ميلانو كان يدرس أعمال ليوناردو لتحسين فنه.
امتلك غيتزي المخطوطة من عام 1690 حتى 1717، ثم باعها لتوماس كوك الذي يحمل لقب “إيرل ليستر” أثناء رحلته الكبرى في أوروبا، وبعد ذلك، أصبحت المخطوطة تُعرف باسم “مخطوطة ليستر” (Codex Leicester)، وظلت المخطوطة في أيدي أحفاده حتى عام 1980.
في مدينة لندن، بتاريخ 12 ديسمبر/كانون الأول 1980، اشترى رجل الأعمال الأميركي وجامع الأعمال الفنية أرماند هامر مذكرة ليوناردو دافنشي مقابل 5 ملايين و126 ألف دولار أميركي، وهو أعلى سعر دُفع في مزاد علني لمخطوطة في ذلك الوقت، وسماها باسمه لتصبح “مخطوطة هامر”، وقال الدكتور هامر رئيس شركة “أوكسيدنتال بتروليوم” (Occidental Petroleum) وهو في عمر 82: “أشعر براحة كبيرة الآن، أنا سعيد جدًا بالسعر، كنت أتوقع أن أدفع أكثر من ذلك بكثير”، وأضاف: “أعتقد أنه أعظم اقتناء قمت به على الإطلاق، سأعرضه في جميع أنحاء العالم”. بحسب صحيفة “نيويورك تايمز”.
عندما توفي هامر عام 1990، ترك المخطوطة ومجموعة أخرى من الأعمال الفنية في متحف أرماند هامر للفن والثقافة في جامعة كاليفورنيا بمدينة لوس أنجلوس، وبعد عدة سنوات، عرض المتحف المخطوطة للبيع، بحجة التكاليف القانونية الناتجة عن دعوى قضائية رفعتها ابنة أخت فرانسيس (زوجة هامر الراحلة ووريثتها الوحيدة)، حيث اتهمت هامر بحرمان فرانسيس من حصتها المشروعة من ثروته.
في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1994، بيعت “مخطوطة هامر” لمشتر مجهول الهوية – تبين لاحقًا أنه بيل غيتس، الملياردير ومؤسس مايكروسوفت – وذلك في مزاد بنيويورك بسعر قياسي جديد بلغ 30.8 مليون دولار، حيث أعاد غيتس تسمية المخطوطة إلى “مخطوطة ليستر”، ومنذ ذلك الحين أعيرت لعدد من المتاحف للعرض العام.
لماذا يهتم غيتس بمذكرات ليوناردو دافنشي؟
في مقابلة مع برنامج “60 دقيقة” عام 2013، قال غيتس عن ليوناردو: “إنه لمصدر إلهام أن شخصًا واحدًا – يعمل بمفرده ودون أن يخبره أحد بما هو صحيح أو ما هو خاطئ – استمر في المضي قدمًا، واعتبر أن المعرفة في حد ذاتها هي أجمل ما يكون”.
وكتب غيتس في مدونته: “عندما تتأمل قدرات ليوناردو المتعددة وعيوبه القليلة، فإن السمة التي تبرز فوق كل شيء هي الإحساس بالدهشة والفضول”، وأضاف: “عندما كان يريد أن يفهم شيئًا – سواء تدفق الدم عبر القلب أو شكل لسان نقار الخشب – كان يراقبه عن كثب ويدون أفكاره ثم يحاول فهمه بالكامل”.
بالنسبة لغيتس، فإن طريقة ليوناردو في التفكير أصبحت فنًا ضائعًا في أيامنا هذه، ورغم أننا في عصر مقالات ويكيبيديا المجانية وفيديوهات يوتيوب، فقد أصبح إشباع الفضول أسهل من أي وقت مضى، فمن المفارقة أن يذكرنا رجل عاش قبل 500 عام بروعة الحياة الحديثة.
ورغم أن غيتس لم يبتكر أي عمل فني لامع مثل لوحة الموناليزا أو العشاء الأخير، فإنه يشترك مع ليوناردو في أوجه شبه عديدة، ففي عام 1999 قدم غيتس العديد من التوقعات حول المستقبل، وتبين لاحقًا أنها صحيحة بشكل مذهل، إذ توقع أن الناس ستحمل أجهزة صغيرة تمكنهم من البقاء على اتصال دائم وتسمح لهم بممارسة أعمالهم الإلكترونية أينما كانوا، وأنهم سيتمكنون من متابعة الأخبار والاطلاع على الرحلات الجوية التي حجزوها والحصول على معلومات من الأسواق المالية، والقيام بأي شيء آخر تقريبًا على هذه الأجهزة.
وبالمثل، كان ليوناردو سابقًا لعصره بكثير، على سبيل المثال، تتضمن “مخطوط ليستر” رسومات ونظريات حول طريقة تدفق الدم عبر القلب، وقد أثبت الباحثون العلميون والأطباء صحة الكثير منها قبل بضع سنوات فقط.
وكحال ليوناردو، كان لدى غيتس دائمًا شغف لا يُشبع بالتعلم وتحويل الأفكار التقدمية والطموحة للغاية إلى واقع، ومن بين هذه الأفكار القضاء على 4 أمراض بحلول عام 2030 (شلل الأطفال، داء دودة غينيا، داء الفيل، العمى النهري).
وكتب غيتس في مقال بمجلة تايم: “أشعر بالتفاؤل تجاه المستقبل لأنني أعلم أن التقدم في المعرفة البشرية قد حسن حياة مليارات البشر، وأنا واثق من أنه سيستمر في ذلك”.