توفيت عالمة البيئة البريطانية الشهيرة، جين غودال، عن عمر يناهز 91 عامًا، وذلك أثناء جولة كانت تقوم بها في الولايات المتحدة لنشر الوعي البيئي، وأعلنت مؤسسة جين غودال أن وفاتها كانت لأسباب طبيعية، وذلك خلال تواجدها في ولاية كاليفورنيا.
تُعد غودال رمزًا عالميًا في الأوساط العلمية والبيئية، واشتهرت بريادتها في دراسة الشمبانزي وحماية البيئة، وقد ألهمت ملايين الأشخاص حول العالم من خلال العلم ودعوتها إلى الرحمة تجاه الكائنات الحية والطبيعة.
تعتبر جين غودال شخصية بارزة تركت بصمة لا تُمحى في مجال علم الحيوان والحفاظ على البيئة، فقد كرست حياتها لفهم سلوك الشمبانزي والدفاع عن حقوق الحيوانات، مما جعلها مصدر إلهام للأجيال القادمة من العلماء والناشطين البيئيين.
“بطلة حقيقية”
نعى عدد كبير من الشخصيات العامة، جين غودال، فقد قال الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، إنها “فتحت الأبواب أمام أجيال من النساء في مجال العلوم”، بينما وصفها الممثل والناشط البيئي، ليوناردو دي كابريو، بأنها “بطلة حقيقية لكوكب الأرض”، مشيدًا بإلهامها الملايين للاهتمام بالطبيعة والعمل من أجلها.
أضاف ولي العهد البريطاني، الأمير وليام، أنها ألهمته شخصيًا، قائلاً: “فضولها اللامحدود وتعاطفها وروحها الريادية غيّرت فهمنا للعالم الطبيعي”، وفي منشور على منصة “إكس”، كتب: “لقد فقد العالم صوتًا استثنائيًا، لقد تحدّتنا جميعًا لنحدث فرقًا، وألهمتني أنا وعددًا لا يحصى من الآخرين للعمل على حماية كوكبنا، جين غودال أحدثت فرقًا حقيقيًا”.
كما عبّر دوق ودوقة ساسكس، الأمير هاري وميغان، عن تقديرهما لإرث غودال، واصفين إياها بأنها “مدافعة بلا كلل عن حماية الطبيعة”، وقالا في بيان: “كانت الدكتورة غودال ذات رؤية، وعالمة، وصديقة للكوكب، وصديقة لنا”.
أكد رئيس الوزراء الكندي السابق، جاستن ترودو، أن “تعاطفها سيستمر في أعمال الحفاظ على البيئة المستقبلية”.
فيما أعربت الأمم المتحدة عن حزنها لرحيلها، ووصفتها بأنها صوت عالمي لحماية البيئة والكائنات الحية، وأشاد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بعملها، مذكّرًا بأنها كانت مبعوثة سلام منذ عام 2002، وساهمت في لفت “الانتباه العالمي إلى أهمية حماية بيئتنا”.
وصفت منظمة “غرينبيس” وفاة جين غودال بأنها خسارة لأحد عمالقة الحفاظ على البيئة في عصرنا، مؤكدة أن إرثها العلمي والبيئي لن يُمحى، وقال المدير التنفيذي المشارك للمؤسسة في المملكة المتحدة، ويل ماكالوم، إن “إرث الدكتورة غودال لا يقتصر على العلم فحسب، بل يشمل أيضًا الحركة العالمية التي ساعدت في إطلاقها لحماية الطبيعة ومنح الأمل لعالم أفضل”.
أشاد بها عالم الطبيعة البريطاني، السير ديفيد أتينبورو، واصفًا إياها بأنها “مدافعة لا تعرف الكلل عن الشمبانزي” و”بطلة عظيمة في حماية البيئة”، وقال أتينبورو، البالغ من العمر 99 عامًا ومذيع بي بي سي المعروف، إن “جين غودال كانت أول من أثبت أن باحثًا وقردًا في البرية يمكن أن يصبحا صديقين حقيقيين، ومن خلال ذلك غيّرت فهمنا للشمبانزي”.
أثار رحيلها صدمة كبيرة في الأوساط العلمية، فقد وصف أدريان سميث، رئيس الجمعية الملكية، غودال بأنها “عالمة مذهلة ألهمت الناس لرؤية العالم الطبيعي بطريقة جديدة”.
أما روجر هايفيلد، من متحف العلوم في لندن، الذي منحها زمالة في وقت سابق من هذا العام، فاعتبرها “مصدر إلهام”، وقال: “كانت شخصية قوية، وهذه أخبار صادمة للغاية، لأنها غيّرت تمامًا الطريقة التي نفكر بها حول الأنواع الأخرى وكيف ننظر إلى أنفسنا، إذ تحدّت فكرة استثنائية الإنسان”.
وقال عالم الطبيعة، كريس باكهام، لبي بي سي إنه يعدّها من أبطاله، واصفًا إياها بأنها “ثورية” و”استثنائية”، مضيفًا: “أن نفقد بطلة في وقت نحتاج فيه إليها في الصفوف الأمامية للدفاع عن الحياة على الأرض، فهذا أمر مأساوي”.
البدايات وغابة غومبي
ولدت جين غودال عام 1934 في لندن، ونشأت في أسرة شجّعتها على الفضول وحب الطبيعة، ومنذ طفولتها كانت مفتونة بالحيوانات، متأثرة بكتب مثل “قصة الدكتور دوليتل” و”طرزان”، وكانت تحلم بالعيش يومًا ما في الغابات بين الحيوانات، هذا الشغف المبكر لم يتراجع مع مرور السنوات، بل أصبح المحرك الأساسي لاختياراتها المهنية والشخصية.
في منتصف العشرينات من عمرها، سافرت إلى شرق أفريقيا حيث التقت بالعالم الشهير، لويس ليكي، الذي لاحظ فضولها وقدرتها على الملاحظة الدقيقة، ومنحها الفرصة لإجراء أبحاث ميدانية في غابة غومبي بتنزانيا، على الرغم من أنها لم تكن تحمل شهادات جامعية أو تدريبًا أكاديميًا رسميًا.
في عام 1960، حققت غودال اكتشافًا علميًا غير مسبوق، عندما رصدت ذكر شمبانزي أطلقت عليه اسم “ديفيد غريبيرد”، وهو يستخدم عصا لاستخراج النمل الأبيض من أعشاشه والتغذي عليه.
شكّل هذا الاكتشاف صدمة للمجتمع العلمي آنذاك، إذ كان الاعتقاد السائد أن صناعة واستخدام الأدوات من خصائص الإنسان وحده، ولم يقتصر أثر الاكتشاف على تغيير الفهم العلمي للشمبانزي، بل دفع أيضًا إلى إعادة النظر في مكانة الإنسان داخل مملكة الحيوان.
لاحقًا، لاحظت جين غودال أن الشمبانزي يشكّل روابط أسرية قوية، ويخوض نزاعات على الأراضي، بل ويشارك في سلوكيات تشبه الحرب، وهو ما كشف عن طبقات جديدة من التعقيد الاجتماعي لهذه الكائنات.
خلال السنوات الطويلة التي قضتها في مراقبة الشمبانزي ودراستهم، أحدثت غودال ثورة في فهمنا لأوثق الكائنات صلة بالإنسان من الرئيسيات، وكان مفتاح اكتشافاتها الرائدة فضولها وقدرتها على الملاحظة الهادئة والمركزة، وأثبتت هذه الاكتشافات أن الحيوانات ليست مجرد كائنات بسيطة، بل كائنات اجتماعية وعاطفية لها شخصيات مستقلة، وهو ما غيّر نهج دراسة الحيوان إلى الأبد.
في عام 1965، ظهرت غودال على غلاف مجلة “ناشيونال جيوغرافيك”، وشاركت في فيلم وثائقي بعنوان “الآنسة غودال وعالم الشمبانزي” بصوت الممثل الشهير، أورسون ويلز، حيث أبرز الفيلم تفاعلها المباشر والودود مع صغار الشمبانزي، مظهراً الجانب الإنساني والعاطفي في علاقتها بهم.
لكن طريقها لم يكن سهلاً، إذ واجهت كثيرًا من الشكوك والتحفظات، خاصة من مجتمع العلماء الذي كان يغلب عليه الطابع الذكوري في ستينيات القرن الماضي، فقد رفض بعضهم أسلوبها في التعامل مع الشمبانزي، الذي اتسم بالود والعاطفة، إذ منحتهم أسماء ووصفتهم بصفات إنسانية، معتبرة أنهم “أصدقاؤها”.
غير أن لويس ليكي، مشرفها ومرشدها، كان يرى أن هذا الأسلوب المختلف لا يقلل من قيمتها العلمية بل يضيف إليها، مؤكدًا أن قدرتها على الملاحظة الدقيقة والارتباط العاطفي مكّناها من كشف أسرار سلوك الشمبانزي التي قد يغفل عنها الباحث التقليدي.
بفضل هذا الدعم، واصلت غودال أبحاثها حتى نالت شهادة الدكتوراه من جامعة كامبريدج، رغم أنها لم تكن تحمل شهادة جامعية مسبقة، في خطوة استثنائية عكست قدراتها وإصرارها على تحقيق أهدافها العلمية.
من باحثة إلى ناشطة
مع مرور السنوات، توسعت اهتمامات جين غودال لتشمل قضايا البيئة بشكل أوسع، إذ أدركت أن الغابات التي قضت فيها أجمل سنوات حياتها مهددة بالتدمير، وأن الشمبانزي يواجه خطر الانقراض بفعل النشاط البشري.
فتحوّلت من باحثة ميدانية إلى ناشطة بيئية عالمية، تسافر إلى مختلف أنحاء العالم لإلقاء المحاضرات وتنظيم الحملات التوعوية حول أهمية حماية البيئة ومكافحة التغير المناخي.
في عام 1977، أسست “معهد جين غودال”، الذي أصبح مؤسسة رائدة في حماية الشمبانزي وتنفيذ برامج بيئية وتنموية في أفريقيا وخارجها، وركزت أنشطة المعهد على حماية القردة العليا الأخرى مثل الأورانغوتان والغوريلا، ومناهضة استخدام الحيوانات في المختبرات، إضافة إلى دعم المشاريع التي تعزز الاستدامة البيئية.
كانت شخصية جين غودال مثالاً يجمع بين الهدوء والحزم، وقالت في مقابلة مع بي بي سي عام 2024: “نحن في خضم الانقراض الكبير السادس، وكلما نجحنا في استعادة الطبيعة وحماية الغابات الموجودة، كان ذلك أفضل”.
عندما سُئلت عن مصدر دافعها رغم تقدمها في العمر، أجابت: “بالتأكيد الناس يريدون مستقبلاً لأطفالهم”، مؤكدة أن الرسالة الأساسية في حياتها هي حماية الكوكب من أجل الأجيال القادمة.
من العادات الشهيرة لغودال حملها دميتها القرد القماشي “مستر إتش”، التي أهداها لها صديق منذ ثلاثة عقود، وقد رافقتها في جولاتها العالمية، لتصبح رمزًا صغيرًا للصداقة الأبدية بين الإنسان وعالم الحيوان، وحتى في مقابلاتها الأخيرة، كان “مستر إتش” حاضرًا في الخلفية، شاهدًا على رحلتها الطويلة.
الإرث
نالت جين غودال تقديرًا عالميًا كبيرًا، إذ مُنحت لقب “سيدة Dame” من الملكة إليزابيث الثانية عام 2003، كما حصلت على وسام الحرية الرئاسي الأمريكي عام 2025، وكانت الأمم المتحدة قد عيّنتها مبعوثة سلام منذ عام 2002، فيما أدرجتها المجلات العلمية العالمية ضمن أبرز العلماء الذين غيّروا فهمنا للعالم الطبيعي.
أشاد العلماء والزعماء العالميون بإرثها، مؤكدين أن حياتها وأعمالها ستبقى مصدر إلهام دائم لكل من يسعى إلى حماية الأرض والكائنات الحية، فقد جسّدت غودال مثالاً حيًّا على دمج العلم بالإنسانية والعمل من أجل الصالح العام، وأظهرت أن الفضول العلمي يمكن أن يقود إلى اكتشافات غير مسبوقة، وأن الرحمة تجاه الكائنات الحية جزء لا يتجزأ من العمل البيئي.
خلال مسيرتها الطويلة، قدّمت للعالم إنجازات علمية شكّلت ثورة في فهم الشمبانزي، وأبرزت عمق الروابط الاجتماعية والعاطفية التي تجمع الحيوانات، ولا يزال إرثها العلمي مؤثرًا في الأجيال اللاحقة من الباحثين، إذ ألهمت مئات الطلاب والعلماء حول العالم لمواصلة دراسة الشمبانزي وفهم سلوك الحيوانات بعمق أكبر وبنظرة أكثر تعاطفًا.
تقول البروفيسورة، كات هوبايتير، من جامعة سانت أندروز، إن سرّ تأثير غودال الكبير يكمن في استعدادها للتخلي عما تحبه، وهو قضاء الوقت مع الشمبانزي، لتكرّس حياتها لنقل شغفها وحبها للحيوان والطبيعة إلى كل من قابلته حول العالم.
كما مثّلت غودال نموذجًا للتوازن بين العلم والعمل الإنساني، إذ جمعت بين الدقة العلمية في الملاحظة والرحمة العميقة تجاه الكائنات التي درستها، وأظهر أسلوبها في التعامل مع الشمبانزي، بما في ذلك منحهم أسماء والتعرف على شخصياتهم الفردية، أن الحيوانات ليست مجرد أرقام وبيانات، بل كائنات حية لها مشاعر وروابط عاطفية.
تحولت جين غودال إلى ناشطة بيئية عالمية ذات تأثير واسع في مجال حماية الغابات والحفاظ على الحياة البرية، وكانت تكرر دائمًا أن الوقت المتاح لحماية الطبيعة محدود، وأن العمل المستمر هو السبيل الوحيد لإنقاذ الأرض من التدهور البيئي والانقراض الجماعي.
اتسم أسلوبها بالعملية والمباشرة، إذ ركزت على مبادرات ملموسة مثل زراعة الأشجار وحماية الغابات في أوغندا، إلى جانب حملات توعية عامة حول تغير المناخ وفقدان التنوع البيولوجي، ومن خلال “معهد جين غودال”، أنشأت برامج تعليمية وتدريبية للأطفال والطلاب لتشجيعهم على الاهتمام بالحياة البرية والطبيعة منذ الصغر، في تعبير واضح عن إيمانها بدور الجيل الجديد ومسؤوليته تجاه البيئة.
في حياتها الشخصية، عُرفت غودال بالهدوء والاتزان، لكنها جسّدت في الوقت نفسه المثابرة والإصرار، فحتى في التسعينيات من عمرها، واصلت السفر والمشاركة في المؤتمرات العالمية والمحاضرات، مؤمنة بأن نقل الرسالة البيئية مهمة لا تنتهي، وقالت لصحيفة “التايمز” عام 2022 إنها لم تنم في السرير نفسه أكثر من ثلاثة أسابيع متواصلة منذ عام 1986.
ظلّت تعمل حتى أيامها الأخيرة، إذ أُجريت لها مقابلة على المسرح في نيويورك قبل أسبوع، وكان من المقرر أن تلقي كلمة أخرى في كاليفورنيا في الثالث من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري.
لقد جسّدت جين غودال مثالاً حيًّا للعالمة التي تسعى إلى تغيير العالم بالمعرفة والعمل، وللناشطة البيئية التي تؤمن بأن كل جهد مهما كان صغيراً يمكن أن يسهم في حماية الكوكب.
من خلال حياتها واكتشافاتها ونضالها من أجل الشمبانزي والطبيعة، ستظل مصدر إلهام للأجيال القادمة، مذكّرة بأن الأرض ليست ملكاً للبشر وحدهم، بل هي موطن لجميع الكائنات الحية، وأن الحفاظ عليها مسؤولية مشتركة لكل من يسعى إلى عالم أفضل وأكثر استدامة.