في العاشر من سبتمبر/أيلول الماضي، هزّت الأوساط السياسية خبر اغتيال تشارلي كيرك، المؤثر البارز في حركة “ماغا” (MAGA)، داخل إحدى الجامعات في ولاية يوتا الأميركية، وقبل أن يتم تأكيد خبر وفاته أو تحديد هوية القاتل، سارع رموز اليمين المتطرف بتوجيه أصابع الاتهام نحو “اليسار”، وعالم “الووك”، والأشخاص المتحولين جنسيًا، وحركات “أنتيفا”، وسرعان ما تحولت هذه الاتهامات إلى حملة “دوكسينغ” منظمة، استُخدمت فيها أدوات الإنترنت لجمع معلومات شخصية عن كل من عبر عن رأي يمكن اعتباره سلبيًا تجاه الضحية، تكشف هذه الحادثة كيف تحولت التكنولوجيا إلى سلاح رقمي، يضع الخصوصية الفردية والأخلاقيات التكنولوجية في دائرة الخطر.
تشارلي كيرك.. من صوت للاستقطاب إلى رمز للاغتيال
اشتهر كيرك، بشخصيته الانقسامية ومواقفه المثيرة للجدل، بدءًا من معارضته للإجهاض وإنكاره للتغير المناخي، وصولًا إلى دفاعه الشرس عن التعديل الثاني وحق امتلاك السلاح، وبالنسبة له، كان من “المقبول” التضحية ببعض الأرواح في حوادث إطلاق النار للحفاظ على “قدسية التعديل الثاني” في الدستور الأميركي، لذلك لم يكن مفاجئًا أن يثير اغتياله ردود فعل شديدة الاستقطاب، وصلت أحيانًا إلى تعبيرات علنية احتفالية.
بعد أيام من الاعتداء، اعتُقل مشتبه به يُدعى تايلر روبنسون، البالغ 22 عامًا، لكنه رفض التعاون مع المحققين، شخصيته جمعت عناصر متناقضة من تيارات أيديولوجية مختلفة، ما جعل دوافعه غامضة، ومع ذلك لم يتردد الرئيس ترامب في تحميل المسؤولية لـ “اليسار الراديكالي”، متهمًا إياه بمساواة أفكار كيرك بالعقيدة النازية، ووصف هذه الخطابات بأنها مسؤولة عن الإرهاب الذي يشهده البلد.
“الدوكسينغ” كسلاح سياسي.. منصة للثأر بعد اغتيال كيرك
في موازاة ذلك، تحركت شبكات التيار اليميني المتطرف لتحويل الحداد إلى مطاردة رقمية، حيث كتبت المؤثرة لورا لومر، المقربة من إدارة ترامب، عبر منصة إكس “إذا كنتم مرضى إلى درجة الاحتفال بموته، فاستعدوا لرؤية طموحاتكم المهنية تُدمّر”، وكانت من أوائل من دعوا متابعيها إلى إبلاغ أرباب العمل عن أي شخص أبدى رد فعل إيجابي على اغتيال كيرك، وسرعان ما ظهرت منصة إلكترونية باسم “قتلة تشارلي” (CharlieMurderers)، مهمتها جمع ونشر بيانات شخصية وصور مأخوذة من حسابات التواصل الاجتماعي، قبل إطلاق موجات من التنمر الإلكتروني.
وظهرت على الصفحة الرئيسية للموقع رسالة واضحة “لقد اغتيل تشارلي كيرك، هل أحد موظفيك أو طلابك يدعم العنف السياسي عبر الإنترنت؟ ابحث عنه في هذا الموقع”، وعلى الرغم من إغلاق الموقع لاحقًا، استمرت المبادرة تحت اسم جديد هو “تشارلي كيرك داتا فاوندايشن” (Charlie Kirk Data Foundation)، ووفق تحقيق لشبكة الجزيرة، أدت حملات التبليغ إلى فصل ما لا يقل عن 15 شخصًا من وظائفهم بسبب آرائهم حول الاعتداء.
لكن الموجة لم تقتصر على مبادرات فردية أو مواقع عشوائية، بل تبنت إدارة ترامب خطابًا مشابهًا، حيث صعّد الرئيس وكبار مسؤولي حكومته لهجتهم، متوعدين بمعاقبة من احتفلوا بمقتل كيرك، المدعية العامة بام بوندي أيضًا تعهدت بملاحقة مروّجي “خطاب الكراهية”، فيما لوّح رئيس لجنة الاتصالات الفيدرالية بريندان كار بسحب تراخيص من مذيعين انتقدوا الضحية، كما أصر نائب الرئيس جي دي فانس على أن هؤلاء “لا يستحقون وظائفهم”، بينما أعلن وزراء آخرون عن عقوبات ضد أجانب وعسكريين.
وبررت الإدارة ذلك باعتباره “ثقافة العواقب” لا “ثقافة الإلغاء”، لكن منتقدين من اليمين واليسار على حد سواء رأوا أن هذه الإجراءات تنذر بتهديد مباشر لحرية التعبير، وتجعل الدولة شريكًا في نفس الممارسات العقابية التي كانت تُنسب عادة إلى المنصات الرقمية.
أرشيفات الإنترنت.. ساحة حرب جديدة
ما حدث لم يكن حالة معزولة، ففي 2021، ظهر موقع “فيس أوف ذا رايت” (Face of the Riot) الذي استخدم صورًا وفيديوهات من منصة “بارلر” (Parler) لتحديد هوية متظاهري اقتحام الكابيتول، وفي 2018، استعان الفنان كايل ماكدونالد بالأسلوب ذاته لتعقب موظفي وكالة الهجرة الأميركية، هذه الأمثلة تكشف أن الإنترنت لم يعد مجرد فضاء للتعبير، بل تحول إلى أداة مراقبة جماعية تشاركية، والجديد في حالة كيرك أن الاستهداف لم يقتصر على من ارتكب أفعالًا، بل توسع إلى تجريم حرية التعبير والكلمة نفسها.
الطلقات التي تحولت إلى ميمز
لكن خطورة القضية لم تقتصر على ما بعد الاغتيال، فالرسائل المنقوشة على أغلفة الطلقات التي استخدمها روبنسون كشفت نية أبعد، وهي جعل الجريمة حدثًا قابلاً للتداول الرقمي، بعض الطلقات حملت شعارات سياسية مثل “بيلا تشاو” (Bella Ciao) في إشارة إلى الأغنية الإيطالية المناهضة للفاشية، والأخرى استُعيرت من ثقافة الإنترنت الفرعية مثل “هاي فاسيست كاتش” (Hey fascist Catch) من لعبة “هيل دايفرز 2” (Helldivers 2)، وصولًا إلى عبارات ساخرة من ميمز متداولة “إذا قرأت هذا فأنت مثلي الجنس، هاها” (if you read this you are gay lmao).
هذا المزج بين الرموز السياسية والثقافة الرقمية يحوّل الفعل الدموي إلى أداء استعراضي رقمي، شبيه بمجزرة كرايست تشيرتش في نيوزيلندا التي بُثت مباشرة، صحيح أن روبنسون لم يصور هجومه، لكن انتشار الصور والفيديوهات كان أوسع وأطول عمرًا من كثير من الهجمات المماثلة.
سرديات متصارعة.. شهيد اليمين أم رمز للتطرف؟
في خضم هذه الفوضى، تباينت التفسيرات، حيث حمّل اليمين الأميركي اليسار المسؤولية، معتبرًا وصف كيرك بـ “الفاشي” تبريرًا للاغتيال، كما وصفته شخصيات مثل ستيف بانون بأنه “ضحية حرب سياسية”، وفي المقابل، حاول مستخدمون على منصات يسارية مثل منصة “بلوسكاي” نسب القاتل إلى جماعة “غرويير” (Groyper)، رغم أن شعاراتِه المناهضة للفاشية أوحت بغير ذلك.
هذا النقاش لم يترك مساحة لفهم البعد الأعمق، وهو كيف تحولت جريمة فردية إلى ساحة رقمية للتشهير والانتقام.
المنصات الكبرى أمام اختبار العنف السياسي.. حين تضخ الخوارزميات الدماء
الانتشار السريع للصور والفيديوهات العنيفة كشف عجز المنصات الكبرى مثل “إكس” و”تيك توك” عن ضبط المحتوى، فمقاطع اغتيال كيرك مازالت تظهر في صفحات مستخدمين رغم محاولات الحذف، وهو ما جعل حاكم يوتا سبنسر كوكس يحذر من أن “تعريض الناس المتكرر لمثل هذه المشاهد يهدد بتحويل العنف إلى أمر اعتيادي”، هذا التحذير لا يخص الجانب النفسي فقط، بل أيضًا الدور البنيوي للخوارزميات التي تضخم الأحداث المثيرة، حتى لو كانت دموية.
ما بعد كيرك.. هل يتحول “الدوكسينغ” إلى أداة سياسية مؤسسية؟
اغتيال كيرك كشف أن العنف السياسي لم يعد حدثًا ماديًا فحسب، بل بات استعراضًا يُعاد إنتاجه عبر الإنترنت، حيث تتحول الجريمة إلى مادة خام للتشهير، والفيديوهات إلى وقود للخوارزميات، و”الدوكسينغ” إلى أداة ضغط سياسي، فهل ستبقى هذه الممارسات في الهامش، أو سنشهد تحولها إلى أداة مؤسسية ضمن الصراع السياسي الأميركي؟.