«فالصين تشعر بالقلق من صعود العملات المستقرة الأميركية»

منذ عقد، كانت العملات المستقرة تمثل جسرًا يُتيح للمضاربين الانتقال بين الأصول الرقمية المحفوفة بالمخاطر، مثل “بتكوين”، وعالم العملات الورقية التي تتسم بالاستقرار النسبي.

لكن هذا الوضع يتغير بسرعة، مع توجه إدارة ترمب المؤيد للعملات المشفرة، حيث يتم تشكيل هذه العملات المستنسخة عن الدولار كوسيلة استراتيجية لتعزيز النفوذ الأميركي على المستوى العالمي، ولا يستهين الرئيس الصيني شي جين بينغ بهذه المنافسة الجيوسياسية الجديدة.

ترمب يوقع قانون تنظيم العملات المستقرة

تُمثل هذه التطورات إعادة تشكيل جذرية للبنية النقدية التي تلت الحرب العالمية الثانية، حيث لم تعد الولايات المتحدة مهتمةً بالقيام بدورها التاريخي كموفر للأصول الآمنة لبقية العالم.

يزيد الشراء المكثف من قبل البنوك المركزية الأجنبية لسندات الخزانة من الطلب العالمي على الدولار كوسيلة تخزين قيمة، بينما يؤثر ذلك سلبًا على قدرة الولايات المتحدة على المنافسة في مجالات التجارة.

هل هناك مبالغة في تقدير قيمة الدولار

هذا هو الرأي الذي قدّمه ستيف ميران، رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس دونالد ترمب، في ورقة بحثية مثيرة للجدل نُشرت في نوفمبر، وهو الآن عضو في مجلس الاحتياطي الفيدرالي. كتب ميران: “من منظور تجاري، يتم باستمرار مبالغة تقدير قيمة الدولار، بسبب اعتباره كعملة الاحتياط العالمية… مما أثقل كاهل قطاع التصنيع الأميركي، لكن القطاعات المالية استفادت كثيرًا.”.

لنبدأ في تناول العملات المستقرة المتداولة بالدولار، والتي تخضع لقانون “جينيوس” الذي أُقرً مؤخرًا، فهي ممنوعة من دفع الفوائد، مما يجعلها غير جذابة كمخازن للقيمة، وهذا أمر مقصود.

مطالبات بتبني الصين للعملات المستقرة مع ترسيخ أميركا لصدارتها

ما دامت العملات المستقرة تُحول قيمتها الاسمية إلى دولارات، فإنها ستنتشر عالميًا كوسيلة دفع، وفي البلدان التي تعاني من ارتفاع التضخم، أو ضوابط رأس المال، أو عدم استقرار الحكومات، قد يرغب الناس في استخدام هذه الرموز لإرسال واستقبال الأموال عبر تقنية “بلوكتشين”.

مع انتشار العملات المستقرة الأميركية، من المتوقع أن تنخفض تكلفة التحويلات المالية الدولية، التي تبلغ حاليًا متوسط 6.5٪، وهذا سيجذب المزيد من المستخدمين يوميًا.

ما يثير قلق بكين هو أن هذا سيُطلق موجة جديدة من الدولرة، في حين تسعى الصين لتوسيع دور اليوان في المدفوعات الدولية.

ما الذي سيحدث في الاقتصادات الأقل استقرارًا

لننظر إلى باكستان كمثال، فهي تعتبر وجهة رئيسية لبرنامج الحزام والطريق، ومتلقية لمليارات الدولارات من الاستثمارات الصينية، وقد تعاونت إدارة ترمب مع إسلام آباد كداعم رئيسي لمبادرة العملات المشفرة العالمية.

منذ مايو 2021، فقدت الروبية الباكستانية نحو نصف قيمتها مقابل الدولار، وعلى الرغم من انخفاض التضخم من أعلى مستوياته عند 38% في عام 2023 واستقرار العملة، إلا أن ذلك يعود بشكل كبير إلى دعم صندوق النقد الدولي، وهو الإنقاذ الرابع والعشرون للبلاد خلال 75 عامًا.

من المنطقي أن معظم الباكستانيين قد يختارون في النهاية استخدام الخيار الثاني، بين الإيداع في مصرف محلي ومحفظة “بلوكتشين” تحتوي على دولارات رقمية.

“ماستركارد” تتيح خيار استلام المدفوعات بالعملات المستقرة

هذا مجرد مثال واحد، حيث يقدّر مصرف “ستاندرد تشارترد” أن العملات الرقمية ستسحب تريليون دولار من ودائع بنوك الاقتصادات الناشئة خلال السنوات القليلة المقبلة، ولن يظل النظام المصرفي محصنًا من تأثيرات ما يُعرف بـ “تجارة تخفيض القيمة”، مما يؤدي إلى اعتياد المستثمرين على التعامل بالعملات الرقمية والذهب بدلاً من العملات الورقية.

من الغريب أن هذه ليست نهاية هيمنة الدولار، بل هي عودة جديدة له في إطار مفهوم مختلف، وفقًا لجان بيير لاندو، نائب محافظ بنك فرنسا السابق.

العملات المستقرة ستساعد على تمويل العجز الأميركي

بما أن مُصدري العملات الرقمية المستقرة في الولايات المتحدة سيُلزمون قانونيًا بدعم عملاتهم بودائع مصرفية، وسندات خزانة قصيرة الأجل، واتفاقيات إعادة شراء مدعومة بسندات الخزانة، سيظل تمويل العجز المالي الأميركي ممكنًا. قال لاندو في مداخلة حديثة حديثة مع الخبير الاقتصادي بجامعة برينستون، ماركوس برونرمير، إن الدولار الرقمي سيكتسب قدرته على تمويل العجز المالي من خلال تأثير الشبكة الرقمية، بدلاً من اعتماده على وضعه كعملة احتياط، وهذا سيعزز جاذبيته كلما زاد عدد المستخدمين. ومع تزايد تداول هذه العملات، سيكون على المُصدرين شراء المزيد من سندات الخزانة.

“سيركل” تخطط لإطلاق شبكة مدفوعات عبر الحدود باستخدام العملات المستقرة

لكن ما مصير السلطات المالية التي ستفقد عملاتها أمام العملات الأميركية المستقرة؟ سوف تسعى أوروبا، بدافعية من القلق بشأن تأثير سحب الودائع على تمويل البنوك، إلى مواجهة هجوم العملات المشفرة الأميركية من خلال اليورو الرقمي الرسمي، والذي يُحتمل أن يُرافقه قيود على عدد العملات التي يمكن الاحتفاظ بها في المحفظة.

ومن المرجح أن تتبنى الصين استراتيجية مختلفة، فعقب عدم نجاحها في الترويج لنسخة رقمية من اليوان المدعوم من الدولة، أو (e-CNY)، للاستخدام المحلي، قد تُعيد تركيزها للسماح للقطاع الخاص بالاستفادة من نسخ افتراضية من اليوان العربي الخارجي.

لكن نظرًا لانعدام ثقتها بهذه الأصول، حيث يُحظر تداول العملات المشفرة في البر الرئيسي، قد تعتمد بكين على قانون هونغ كونغ الجديد للعملات المستقرة كاختبار أول.

التحدي الذي تواجهه الصين هو أكثر واقعية بكثير من فكرة ليبرا، وهي عملة عالمية جديدة تنبأ بها مارك زوكربيرغ عام 2019، والتي وعدت بتلبية “الاحتياجات المالية اليومية لمليارات البشر” وتحدي الدولار الأميركي يومًا ما.

من خلال تمكين تجارة تخفيض القيمة من التعايش مع هيمنة تقنية جديدة، ستُحقق العملات المستقرة الأميركية التوازن المطلوب بطريقة مختلفة، حتى في حال فقدان الثقة العالمية بالدولار، يبقى الناس والمؤسسات بحاجة إلى ما استنسخه القطاع الخاص لتلبية مصروفاتهم، وقد يستمتع ترمب بهذا الحلم، لكن شي جين بينغ لن يستمتع به.