تُعد الطفولة بحق من أخصب المراحل العمرية بالحيوية والانفعال، فهي فترة تتفجر فيها الطاقات الكامنة والرغبة العارمة في الاكتشاف والحركة المتواصلة، فالطفل لا يقر له قرار، بل يتحرك باستمرار، ويسأل بفضول، ويلمس كل ما يقع تحت نظره، ساعيًا لفهم العالم من حوله بطريقته الفردية المميزة.
متى يصبح النشاط الزائد مصدر قلق؟
هذه الطبيعة النشطة هي السمة الغالبة على السنوات الأولى من العمر، غير أن بعض الأسر قد ينتابها القلق عندما يتحول هذا النشاط الطبيعي للطفل إلى سلوك مفرط، أو تخريب متكرر في المنزل، أو فضول يتجاوز الحدود المأمونة، مما يثير تساؤلات حول ماهية هذه السلوكيات.
اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD)
في الحقيقة، لا يمكن النظر إلى هذه السلوكيات بمعزل عن المرحلة العمرية للطفل، فالنشاط الزائد قد يكون طبيعيًا تمامًا ومؤشرًا واضحًا على نمو بدني وعقلي سليم، ولكنه قد يشير أحيانًا إلى اضطراب شائع يُعرف باسم “اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه” (ADHD)، وهو أحد أكثر الاضطرابات السلوكية انتشارًا على مستوى العالم.
ووفقًا لتقديرات منظمة الصحة العالمية لعام 2024، فإن ما بين 5% إلى 7% من الأطفال عالميًا يُصابون بهذا الاضطراب، الذي يتميز بصعوبة بالغة في التركيز، وعدم القدرة على إتمام المهام الموكلة إليهم، بالإضافة إلى الاندفاعية الملحوظة في السلوك والتصرفات.
علامات تستدعي استشارة المتخصص
عندما يلاحظ الأهل أن طفلهم يجد صعوبة في الجلوس بهدوء لفترة قصيرة، أو يتنقل بسرعة من نشاط لآخر دون إتمام أي منها، أو يفقد اهتمامه بالأشياء والأنشطة بسرعة غير معتادة، فعندئذٍ ينبغي عليهم التوجه إلى متخصص نفسي أو تربوي لتقييم الحالة، وذلك باستخدام أدوات تشخيصية معتمدة مثل مقياس «كونرز» الشهير لفرط الحركة وتشتت الانتباه، والذي يساعد في تحديد مدى وجود الاضطراب من عدمه.
السلوك التخريبي: دلالات أعمق
أما السلوك التخريبي في المنزل، والذي قد يتجلى في كسر الأدوات أو العبث بالأثاث، فغالبًا ما لا يكون تعبيرًا عن نية عدوانية مبيتة، بل هو نتيجة طبيعية لطاقة داخلية هائلة وغير موجهة بشكل سليم، فالطفل الذي يُمنع باستمرار من اللعب أو الحركة الحرة، قد يلجأ إلى تفريغ طاقته بهذه الأفعال غير المقبولة، كما أن بعض الأطفال يسعون من خلال هذه السلوكيات إلى لفت انتباه والديهم في بيئة قد تفتقر إلى التواصل الوجداني الفعال أو التفاعل الإيجابي المستمر.
وتؤكد الدراسات التربوية أن العقاب المستمر لا يؤدي إلى تعديل السلوكيات غير المرغوبة، بل غالبًا ما يعزز العدوانية والانطواء لدى الطفل، بينما يحقق “التعزيز الإيجابي” نتائج أفضل بثلاثة أضعاف، وذلك وفقًا لتقارير الجمعية الأمريكية لعلم النفس لعام 2023، التي تشدد على أهمية المكافأة والثناء بدلاً من العقاب.
فضول الأطفال: معمل المعرفة الأول
حب الاستطلاع والاستكشاف عند الأطفال يُعد من الصفات الأصيلة والجوهرية في تكوينهم العقلي والنفسي، إذ يمثل الوسيلة الأولى والأساسية للتعلم واكتساب فهم عميق للعالم المحيط بهم، فالطفل يتعلم بشكل أساسي من خلال الملاحظة الدقيقة، واللمس المباشر، والتجربة العملية، وهو ما وصفه عالم النفس الشهير جان بياجيه بأنه «المعمل الأول للمعرفة» الذي يبني فيه الطفل إدراكه للعالم.
دور الأسرة في توجيه الفضول
وهنا لابد وأن ندرك أن غياب التوجيه والإشراف الملائم قد يحوّل هذا الفضول الطبيعي إلى سلوك خطير، مثل محاولة فتح الأجهزة الكهربائية، أو استخدام الأدوات الحادة بشكل غير آمن، وهنا تبرز أهمية الدور التربوي المحوري للأسرة في تحقيق التوازن الدقيق بين إتاحة الفرصة للطفل لاكتشاف ما حوله بحرية تامة، وبين وضع الحدود الواضحة والضرورية التي تحميه وتحافظ على سلامته وسلامة البيئة من حوله في آن واحد.
قنوات بناءة لتوجيه الطاقة
ومن المهم جدًا توجيه هذه الطاقة الفطرية الكبيرة إلى قنوات بناءة ومثمرة، مثل الرسم، والألعاب التركيبية التي تنمي مهاراتهم، والرياضة التي تفرغ طاقتهم البدنية، والأنشطة العلمية المبسطة التي تشبع فضول الطفل المتزايد وتشجعه على التفكير الإبداعي والابتكاري، إذ تظهر تقديرات وبحوث منظمة اليونيسيف أن الأطفال الذين يشاركون بانتظام في أنشطة معرفية وحركية منظمة، تقل لديهم السلوكيات العدوانية بنسبة 40% مقارنة بأقرانهم الذين يفتقرون لهذه الفرص المنظمة.
التربية الإيجابية: منهج النجاح
وتأتي التربية الإيجابية كأحد أهم الأساليب التربوية الحديثة التي تُحدث تحولًا جذريًا في الانتباه من العقاب إلى التحفيز والتشجيع، فالتربية الإيجابية تقوم على مبادئ أساسية منها الثناء الصادق عند قيام الطفل بالسلوك الصحيح، والصبر العميق عند الوقوع في الخطأ، والتكرار المستمر في التوجيه والإرشاد دون قسوة أو عنف، فالطفل الذي يسمع كلمات تشجيع وتقدير عند التزامه أو اجتهاده، يبني ثقة قوية بنفسه ويكرر السلوك الإيجابي تلقائيًا بدافع داخلي، بينما يؤدي العقاب القاسي إلى تراجع الدافعية وتولّد الخوف والانطواء بدلًا من التعلم الفعال.
فهم طاقة الطفل: مفتاح الإبداع
الرسالة العلمية التي ينبغي أن تصل لكل أولياء الأمور هي أن الحركة الزائدة، والسلوك التخريبي، وحب الاستطلاع ليست بالضرورة مؤشرات سلبية تدعو للقلق، بل قد تكون دلائل قوية على طاقة فطرية هائلة وفضول معرفي عميق يمتلكه الطفل، ويمكن للأسرة والمربين تحويل هذه الطاقة إلى قوة بناءة ومبدعة إذا أحسنوا توجيهها واستثمارها، فكل طفل يملك في داخله بذرة إبداع فريدة تحتاج فقط إلى الرعاية المستمرة، والصبر الجميل، والفهم العميق لطبيعته.
إن كل سلوك يصدر عن الطفل، مهما بدا بسيطًا، يحمل وراءه معنى عميقًا، قد يكون رغبة ملحة في التعلم، أو حاجة أساسية إلى التواصل والتفاعل، أو بحثًا دائمًا عن الأمان والطمأنينة، ومن واجب الأسرة والمجتمع بأسره أن يستوعب هذا المعنى الحقيقي ويحوله إلى فرصة ذهبية للنمو والتطور، لا إلى تهمة تُوجه للطفل أو خطأ يُعاقب عليه، فالأطفال لا يولدون مشاغبين بالفطرة، بل يولدون باحثين فضوليين عن معنى الحياة في أبسط تفاصيلها وأعمقها.
