سودافاكس – بعد نجاح إدارة ترامب في دفع أزمة غزة نحو وقف إطلاق النار وإنهاء الصراع بتسوية ترضي تل أبيب، وتحظى بقبول حماس وفصائل المقاومة الأخرى والسلطة الفلسطينية، عبر خطة ترامب التي دخلت حيز التنفيذ بالفعل، من المتوقع أن تسعى الإدارة الأمريكية القادمة إلى وضع ملف الحرب في السودان على رأس أجندتها لحل النزاعات وإحلال السلام في مناطق التوتر والصراعات المزمنة حول العالم.
ويأتي هذا ضمن توجه عام معلن لإدارة ترامب لم تخفِ دوافعه، والمتمثلة في تبني سياسة “إطفاء الحرائق المشتعلة” لتحقيق أهداف تُحسب لصالح ترامب بالدرجة الأولى، وتطلعه لنيل جائزة نوبل للسلام، وكذلك لتحقيق ما عجزت عنه إدارة بايدن، لكسب مزيد من النقاط في السباق التنافسي بين الجمهوريين والديمقراطيين.
وما لم تحدث تطورات دراماتيكية أو تصعيد كبير على جبهة الحرب الروسية الأوكرانية، فإن إدارة ترامب لن تنشغل بيوميات هذه الحرب أكثر مما هي عليه الآن، ويتوقع أن تولي اهتمامًا وتركيزًا أكبر لقضية الحرب في السودان.
خاصة أن الوضع الإنساني في مدينة الفاشر يشهد تدهورًا مستمرًا، بسبب الحصار الطويل المفروض من قوات الدعم السريع على المدينة، وارتكابها انتهاكات وجرائم حرب مستمرة بحق المدنيين، واستهداف المستشفيات ومعسكرات النازحين ودور العبادة، وهي أعمال كانت محل تنديد الأمم المتحدة التي طالبت بوقفها.
لكن المشكلة الأساسية التي ستعترض طريق إدارة ترامب لحل الأزمة في السودان، تكمن في الفجوة الكبيرة التي تتسع يومًا بعد يوم بين الرؤية الأمريكية، التي تم التعبير عنها مرارًا في الفترة الماضية وتم التأكيد عليها الشهر الماضي على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبين رؤية الحكومة السودانية المعلن عنها في فبراير/شباط من هذا العام، والتي أطلقت عليها اسم “خارطة الطريق”.
الرؤية السودانية لحل الأزمة
وقد أكد رئيس مجلس السيادة، عبدالفتاح البرهان، مرارًا وتكرارًا في مناسبات عديدة أن هذه الخارطة تصلح أساسًا لحل الأزمة وإحلال السلام في السودان، وإرساء دعائم الحكم المدني الديمقراطي فيه.
كما أشار إليها رئيس الوزراء، كامل إدريس، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، مذكّرًا بأن السودان قد قدم هذه الخارطة لمجلس الأمن بصورة رسمية، باعتبارها الرؤية الرسمية للحكومة السودانية للخروج من نفق الأزمة الراهنة.
نقاط الاختلاف الرئيسية بين الرؤيتين
وتتمثل الفجوة والتعارض بين الرؤيتين السودانية والأمريكية في أربع نقاط أساسية:
أولًا، الرؤية الأمريكية تساوي بين قوات الدعم السريع وبين الحكومة السودانية، وتصفهما بـ “طرفي الصراع”، بل وتحمل الحكومة السودانية المسؤولية عن تداعيات الحرب، وعلى رأسها الأزمة الإنسانية، مناصفة مع قوات الدعم السريع.
وهو ما ترفضه الحكومة السودانية جملة وتفصيلًا، وترى أن قوات الدعم السريع هي وحدها المسؤولة عن هذه التداعيات، بارتكابها جرائم حرب موثقة، وثبوت ارتكابها جريمة الإبادة الجماعية بحق مجموعة المساليت في غرب دارفور، والمجازر المروعة بحق المدنيين في قرى ولايات الجزيرة والنيل الأبيض وسنار، وفي غرب وشمال كردفان، والعاصمة الخرطوم.
ثانيًا، تقوم الرؤية السودانية على أنه لا مستقبل لقوات الدعم السريع والجماعة السياسية المتحالفة معها، المتمثلة في جماعة “صمود” برئاسة رئيس الوزراء السابق المستقيل عبدالله حمدوك، في الحياة السياسية في السودان، وأنه لا تسوية معهما تعيدهما مرة أخرى إلى المشهد السياسي في السودان.
وترى الحكومة السودانية أن هذا مطلب شعبي وجماهيري لا تستطيع تجاوزه، بل ترى أن المسؤولية الأخلاقية والقانونية والوطنية تحتم عليها التعبير عنه والاستجابة له وترجمته على أرض الواقع.
بينما في الجانب الآخر، تقوم الرؤية الأميركية على وجوب وضرورة أن تكون قوات الدعم السريع وحليفها المدني في جماعة “صمود” جزءًا من أي صيغة تسوية محتملة، وأن يتم إشراكهما فيها باعتبارهما أحد طرفي النزاع، بمعنى آخر، أن يكونا ضمن توليفة الحكم – أيًا كانت صيغتها – في الحياة السياسية في السودان، ضمن ترتيبات سياسية وأمنية يتم التوافق عليها.
ثالثًا، وهي في اعتقادي أكثر نقاط الخلاف تعقيدًا كونها هي نفسها مركبة وشائكة، قضية كيفية إنهاء الحرب.
فرؤية الحكومة السودانية في هذا الشأن، المنصوص عليها في خارطة الطريق، تقوم على أن إنهاء الحرب يبدأ بإلقاء قوات الدعم السريع السلاح، ورفع حصارها عن مدينة الفاشر، والانسحاب من المناطق التي تتواجد فيها.
بينما الرؤية الأميركية ترى أنه لا بد من تطبيق وقف إطلاق نار غير مشروط، وبقاء كل طرف في أماكن تواجده، وهو ما ترفضه الحكومة السودانية، وترى أنه يضفي الشرعية على تمرد قوات الدعم السريع، ويضعها على قدم المساواة مع الحكومة الشرعية المعترف بها دوليًا، ويعطي المليشيا ما عجزت عن نيله بالحرب.
وبالتالي، يغض الطرف عن كل جرائمها وانتهاكاتها التي مارستها طوال ثلاثين شهرًا، هي عمر الحرب حتى الآن، الأمر الذي يضع الحكومة السودانية في محك حرج أمام الشعب الذي كان ضحية لهذه الانتهاكات والجرائم، مما يمكن أن يفضي إلى حدوث مقاومة شعبية رافضة للتسوية، وهو أمر إن حدث سيدخل السودان في نفق أشد إظلامًا.
رابعًا وأخيرًا، ترى الحكومة السودانية أن على الجانب الأميركي أن يضغط بشكل جدي وأكثر قوة على الأطراف الإقليمية الداعمة لقوات الدعم السريع وحليفها السياسي، كمدخل صحيح ومنتج ومؤثر يفضي إلى وقف الحرب.
فالحكومة السودانية تعتقد بصورة جازمة أن مفتاح وقف الحرب يتمثل في وقف هذه الأطراف لدعمها للدعم السريع، بينما لا يبدو على الجانب الأميركي أي اتجاه حتى الوقت الراهن لممارسة أي نوع أو درجة من الضغط على هذه الأطراف الإقليمية، ولم يتم التطرق من الجانب الأميركي لهذه القضية، بل هناك تجنب ملحوظ للخوض فيها، رغم الطَرْق المستمر من جانب الحكومة السودانية عليها في المحافل الإقليمية والدولية، ورغم غزارة المعلومات والوثائق التي قدمتها الحكومة السودانية والتي تؤيد ادعاءها وتؤكد تورط هذه الأطراف، إلى جانب ما كشفت عنه تحقيقات استقصائية أجرتها عدة مؤسسات صحفية أوروبية وأميركية حول الموضوع.
معضلة الفاشر والحسم العسكري
وإذا أضفنا إلى ذلك كله معضلة الفاشر، التي أصبح الصراع حولها ذا طبيعة صفرية لا يقبل التسوية أو أنصاف الحلول، يتضح لنا مدى صعوبة الوصول إلى حل سلمي تفاوضي وفقًا للرؤية الأميركية المطروحة الآن، فقوات الدعم السريع تعول كثيرًا على السيطرة عليها بالقوة لتكتمل لها السيطرة – حسب وجهة نظرها – على إقليم دارفور، لتكون في وضع مريح ومواتٍ سواء لخوض عملية سلمية تفاوضية مع الحكومة السودانية أو الاستمرار في المواجهة العسكرية، وفي قبضتها ثلاث من كبريات مدن إقليم دارفور.
وفي الجانب الآخر، فإن فك الحصار عن الفاشر بعملية عسكرية بالنسبة للحكومة السودانية وإلحاق الهزيمة بقوات الدعم السريع، هو هدف استراتيجي ظلت تحشد له القوة والعتاد والاستنفار، وهو مفتاح لتقويض سيطرة الدعم السريع على بقية مدن إقليم دارفور على طريقة تساقط قطع الدومينو، ومن ثم الإعلان عن القضاء على الدعم السريع.
وهي نتيجة تتوج بالنجاح الحملة العسكرية التي قادها الجيش السوداني ضد أكبر تمرد مسلح شهده تاريخ السودان الحديث، وفي نفس الوقت تحقق للحكومة هدفًا سياسيًا مهمًا، وهو استكمال تطبيق خارطة الطريق ذات البنود الخمسة:
وأولها، إطلاق الحوار الوطني الشامل لكل القوى السياسية والمجتمعية المنحازة للصف الوطني، وتلك التي رفعت يدها عن تأييد الدعم السريع.
وثانيها، إجراء تعديلات ضرورية في الوثيقة الدستورية وإجازتها من القوى الوطنية والمجتمعية، وتكون بقية البنود الثلاثة من الخارطة قد تحققت عمليًا؛ وهي تشكيل حكومة كفاءات وطنية، وقد تم ذلك بتشكيل حكومة الأمل برئاسة كامل إدريس، ورفع الحصار والانسحاب من قبل الدعم السريع من المناطق التي تسيطر عليها، وإلقاء السلاح وإخلاء الأعيان المدنية، وهذان البندان لن يكون لهما وجود في حال ألحق الجيش والقوات المساندة له الهزيمة بقوات الدعم السريع.
ميزان القوى العسكري
وبطبيعة الحال، فإن السيطرة على الفاشر وفق ما هو منظور الآن لن يتحقق لأحد الطرفين إلا بالقوة العسكرية وحدها، وبالتالي فإنه ووفقًا لميزان القوة العسكري الحالي بين الجيش والقوات المساندة له، وبين الدعم السريع، يشير (نظريًا) إلى تقارب بين كفتيه، حيث يتكدس العتاد والسلاح والتحشيد والتعبئة والإمداد اللوجستي والمقاتلون المرتزقة في جانب الدعم السريع في سعي حثيث لمعادلة القوة مع الجيش.
ولكن عمليًا، فإن الجيش – والقوات المساندة له – يمتلك هو الآخر العتاد والقوة الضاربة والتنظيم والمعلومات والسند الشعبي، وفوق ذلك ترجح كفته بالسيادة الجوية بسلاح الطيران، وبأنظمة الدفاع الجوي، حيث تمتلك قوات الدعم السريع الطائرات المسيرة الاستراتيجية منها والقصيرة المدى، لكن تنقصها الكوادر الفنية المؤهلة المشغلة لها.
وإذا أضفنا لذلك خبرة الجيش في إخراج قوات الدعم السريع من العاصمة الخرطوم، وبقية المناطق التي كانت تسيطر عليها في السابق، فإنه يمكن القول إن الغلبة في نهاية المطاف ستكون للجيش السوداني والقوات المساندة له، ولكن عبر معركة يعلم قادة الجيش أنها ستكون الأكثر شراسة في هذه الحرب.
وهذا ما يفسر التأني الذي يتبعه الجيش في مواجهة الحصار المضروب على الفاشر، وهو تكتيك أثبت نجاحه ومكّن الجيش من الانتصار في معارك كثيرة في مواجهة الدعم السريع، وهو ما أطلق عليه البرهان بعد خروجه من مباني القيادة العامة للجيش بعد خمسة أشهر من الحرب مصطلح “الحفر بالإبرة”.
تفكيك المليشيات: عامل داعم لموقف السودان
وثمة عامل مهم يعضد من موقف الحكومة السودانية فيما إذا انخرطت في حوار مع أميركا بخصوص إنهاء الحرب، وهو أن الاتجاه العام لسياسة إدارة ترامب في تعاطيها مع الأزمات في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا يقوم على أساس تفكيك المليشيات والحكومات الموازية المنتشرة في كثير من دول المنطقة، لصالح الحكومات الشرعية المعترف بها دوليًا.
وتعتبر قوات الدعم السريع بحسب القانون الدولي والمواثيق والأعراف الدولية مليشيا تعمل خارج نطاق المؤسسة العسكرية الرسمية بالدولة، وبالتالي فإن الإبقاء عليها ضمن صيغة تسوية أميركية يعد تناقضًا بينًا مع سياسة تفكيك المليشيات التي تتبناها إدارة ترامب.
