لا يزال اسم جيفري إبستين يثير الغموض، ويرتبط بالنفوذ والاتهامات التي لم تتوقف حتى بعد وفاته في زنزانته بنيويورك عام 2019.
لم تُغلق القضية بوفاته، بل أعادها إلى الواجهة نشر الوثائق، والمراسلات، والتسويات القانونية في السنوات اللاحقة، وربطت هذه الوثائق العديد من الشخصيات العامة بإبستين، دون حسم قضائي نهائي بشأن دور أي منهم، ومن بين هؤلاء الأمير أندرو ماونتباتن ويندسور، شقيق الملك تشارلز الثالث، والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
عُثر على إبستين ميتًا في زنزانته بأحد سجون نيويورك، بينما كان يواجه اتهامات بالاتجار بالبشر لأغراض جنسية، وكان إبستين قد نفى هذه الاتهامات قبل وفاته.
قضية إبستين تظل وصمة عار على جبين النخبة، وتجسد كيف يمكن للثروة والنفوذ أن يعميا الأعين عن جرائم مروعة، ولا يزال الكثيرون يتساءلون عن مدى تورط الشخصيات البارزة التي كانت على صلة به، وما إذا كانت الحقيقة الكاملة ستظهر يومًا ما.
البدايات والرحلة إلى الثراء
ولد جيفري إبستين في 20 يناير/كانون الثاني 1953 في بروكلين بولاية نيويورك، لعائلة من الطبقة العاملة، حيث كان والده يعمل في دائرة الحدائق التابعة لبلدية نيويورك.
لم يكمل إبستين تعليمه الجامعي، إلا أن مهاراته الرياضية العالية مكنته من العمل كمدرس للرياضيات والفيزياء في مدرسة “دالتون” الخاصة في نيويورك خلال منتصف السبعينيات.
من خلال علاقاته في المدرسة، أتيحت له فرصة للعمل في المؤسسة المالية “بير ستيرنز”، وكانت هذه الخطوة بداية دخوله عالم الأعمال والثروة.
خلال عمله في “بير ستيرنز”، تولى إبستين إدارة أموال عدد من كبار رجال الأعمال، وتركزت مهمته على تقديم المشورة الاستثمارية، وكان من بين أبرز عملائه ليزلي فيكسنر، مالك شركة “فيكتوريا سيكريت”، والذي أصبح لاحقًا مستشاره المالي الرئيسي.
في عام 1982، أسس إبستين شركته الخاصة لإدارة الاستثمارات، ونجح في جذب أصحاب الثروات الكبيرة، وارتبط اسمه بإدارة أصول تقدر بمليارات الدولارات، ونُقل عنه أنه لم يكن يقبل إدارة أموال تقل عن مليار دولار للعميل الواحد، هذا النجاح مكنه من امتلاك واحد من أكبر العقارات الخاصة في مانهاتن، بالإضافة إلى ممتلكات فاخرة في فلوريدا، ونيو مكسيكو، وجزيرة خاصة في الكاريبي، وشقة في باريس.
كان إبستين يتمتع بعلاقات اجتماعية واسعة مع شخصيات بارزة في مجالات السياسة، والفن، والترفيه، وكان من بين ضيوفه المتكررين كيفن سبيسي، وودي آلن، ودونالد ترامب، وبيل كلينتون، وفي عام 2003، حاول شراء “مجلة نيويورك” بالاشتراك مع هارفي وينستين، لكنه لم ينجح في ذلك، كما قدم في العام نفسه تبرعًا لجامعة هارفارد بقيمة 30 مليون دولار.
حرص إبستين على تجنب الظهور العلني، وحافظ على حياة خاصة بعيدة عن الإعلام، وارتبط اسمه بعلاقات مع ملكة جمال السويد السابقة إيفا أندرسون دوبين، ومع غيلين ماكسويل، ابنة الناشر البريطاني روبرت ماكسويل، لكنه لم يتزوج.
وصفته رئيسة شركة تيفاني للمجوهرات عام 2003، ميغ ويتمان، بأنه لغز كبير، أشبه بالشيفرة ومنغلق جدًا.
المشاكل والنهاية
في عام 2005، اتصلت امرأة بالشرطة وأبلغت عن تعرض ابنة زوجها البالغة من العمر 14 عامًا لاعتداء جنسي على يد شخص ثري في حي بالم بيتش.
خلال استجواب الشرطة، روت الفتاة ما جرى لها بالتفصيل في منزل فخم كبير، وقالت إن رجلًا ذا شعر رمادي طلب منها تدليك جسده وهو عار تمامًا، وأمرها بخلع ملابسها أثناء ذلك، وعرضت الشرطة عليها صورًا لبعض الأثرياء في المنطقة، ومن بينها صورة لإبستين، فتعرفت عليه على الفور.
تحدثت التقارير عن مئات الفتيات، بينهن عدد كبير من القاصرات، وغالبيتهن من أسر فقيرة ومفككة، ويتيمات، ونزيلات دور الرعاية، إذ كان يمنح كل فتاة ما بين 200 إلى 300 دولار مقابل الزيارة الواحدة، وكان يطلب من الفتيات استقطاب غيرهن من الطالبات الصغيرات، بحيث تصبح الفتاة “وسيطة دعارة”، وتحصل على مبلغ مقابل جلب فتيات أخريات لإبستين، لدرجة أن واحدة قالت إنها جلبت له أكثر من مئة فتاة.
كانت شروط إبستين بسيطة وواضحة: أريد فتيات صغيرات، وشقراوات، ونحيفات.
أبلغت إحدى الفتيات إبستين بأن الشرطة حققت معها بشأن ما يقوم به، وسرعان ما داهمت الشرطة المنزل، وعثرت على عدد كبير من الصور لفتيات عاريات بعضهن صغيرات السن، وأشياء ومقتنيات كلها متعلقة بالجنس.
أوضح رئيس شرطة بالم بيتش وقتها أن التحقيق يشير إلى أننا لسنا أمام مجرد إشاعة أو رواية غير مترابطة لفتاة تحرش بها شخص ما، نحن إزاء رواية لأكثر من 50 فتاة يحكين التفاصيل نفسها.
كان إبستين يتمتع بشبكة علاقات واسعة ونفوذ ملحوظ، إلى حد أن المدعي العام الذي تولى ملفه في المرة الأولى تعامل مع القضية بحذر، وبرز في تلك المرحلة أن إبستين كان على صلة بكل من الرئيسين السابقين بيل كلينتون ودونالد ترامب، وبالأمير البريطاني أندرو، دون أن يوجه أي اتهام لأي منهم في تلك القضية.
تولى الدفاع عنه فريق يضم عددًا من أبرز المحامين في الولايات المتحدة، إضافة إلى أكاديمي معروف من جامعة هارفارد، وتمكن هذا الفريق من التفاوض على اتفاق غير معتاد في النظام القضائي الأمريكي، أملى خلاله محامو إبستين معظم بنود التسوية على الادعاء العام.
نص الاتفاق على أن يقر إبستين بتهمة أقل خطورة، مقابل عقوبة بالسجن 18 شهرًا، وتسجيل اسمه في قائمة مرتكبي الجرائم الجنسية، مع تجنب محاكمة فدرالية وإغلاق التحقيق الفدرالي المتعلق بالقضية.
شمل الاتفاق بندًا يقضي بأن تبقى تفاصيله سرية، وأن يُمنع الكشف عن أسماء أي أشخاص قد ترد أسماؤهم في الملف أو ملاحقتهم قضائيًا، كما لم تُبلغ الضحايا بمضمون الاتفاق، وخلال فترة تنفيذ العقوبة، سُمح لإبستين بقضاء 12 ساعة يوميًا خارج السجن، ثم أُفرج عنه بعد 13 شهرًا لحسن السلوك، وبعد خروجه، أقام حفلاً كبيرًا حضره الأمير أندرو.
أُدرج اسم إبستين في نيويورك ضمن الفئة الثالثة على سجل مرتكبي الجرائم الجنسية، وهي فئة تشير إلى احتمال مرتفع لتكرار الجريمة، لكنه احتفظ رغم ذلك بثروته، بما في ذلك ثلاث طائرات خاصة، إحداها من طراز بوينغ 727.
في مقابلة مع مجلة “نيويورك ماغازين” عام 2007، التي كانت تعد حينها ملفًا عن قضيته، قال الصحفي مايكل وولف إن إبستين لم يخف اهتمامه بالفتيات الصغيرات، ونُقل عنه قوله: “أنا أحب الفتيات الصغيرات”، مضيفًا أنه رد عليه باقتراح أن يقول إنه “يحب النساء الشابات”.
قدم إبستين في مقابلة مع صحيفة “نيويورك بوست” عام 2011 روايته الخاصة، قائلًا إنه ليس “وحشًا مفترسًا يبحث عن طرائده”، وإنه “مجرد مذنب”، معتبرًا أن الفرق بين الحالتين يشبه “الفرق بين جريمة قتل وسرقة قطعة كعك”.
بعد نحو عشر سنوات، أُعيد فتح التحقيق في القضية التي حوكم بشأنها عام 2008، لكن التهمة هذه المرة كانت الاتجار بالبشر لأغراض جنسية، وهي تهمة أشد من تهمة استغلال قاصر التي أقر بها سابقًا، وأُلقي القبض عليه في 6 يوليو/تموز 2019 فور عودته من باريس على متن طائرته الخاصة.
داهم مكتب التحقيقات الفدرالي منزله في مانهاتن، وهو الموقع الذي قالت التحقيقات إن معظم الانتهاكات وقعت فيه، وصادر وثائق ومواد وُصفت بأنها تحمل قيمة إثباتية.
في 10 أغسطس/آب 2019، عُثر على إبستين ميتًا داخل زنزانته في سجن بنيويورك بينما كان بانتظار محاكمته، وكان قد نفى ارتكاب أي جرم على صلة باتهامات الاتجار أو التآمر قبل وفاته.
أندرو وترامب
كان الأمير أندرو ماونتباتن ويندسور من أكثر المتضررين بعد سقوط جيفري إبستين، إذ تعود علاقتهما إلى التسعينيات، ومع بدء التحقيقات، برزت شهادة فيرجينيا جيوفري التي اتهمته بممارسة الجنس معها عندما كانت قاصرًا، واعتُبرت المقابلة التي ظهر فيها عبر بي بي سي للدفاع عن نفسه نقطة انهيار في مسيرته العامة، بعدما بدت إجاباته متناقضة وغير مقنعة، وانتهت بانسحابه من واجباته الرسمية وتراجع مكانته أمام الرأي العام.
التسوية التي عقدها أندرو مع جيوفري عام 2022 لم تنه الجدل، ومع نشر رسائل بريد إلكتروني عُثر عليها ضمن ملفات إبستين خلال عامي 2024 و2025، ظهرت تفاصيل جديدة زادت الضغط على القصر الملكي في بريطانيا، بعض هذه الرسائل أظهر استمرار التواصل بينه وبين إبستين بعد الفترة التي قال فيها إنه أنهى علاقته به، فيما كشفت رسائل أخرى ترتيبات للقاءات لم يُعلن عنها، ما أدى إلى موجة انتقادات جديدة داخل بريطانيا.
مع مطلع عام 2025، اتخذ الملك تشارلز الثالث إجراءات أكثر صرامة، شملت تجريد شقيقه من لقب دوق يورك، وحرمانه من أوسمة ملكية رفيعة، وبدء عملية لإبعاده عن مقر إقامته الرسمي، وفي 3 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، صدر مرسوم ملكي رسمي سُحب بموجبه حقه في استخدام لقب “أمير” وأسلوب المخاطبة “صاحب السمو الملكي”.
من جانبه، كان دونالد ترامب قد تحدث عن جيفري إبستين في عام 2002 قائلًا: “أعرفه منذ 15 سنة، إنه شخص هائل، وصحبته ممتعة، ويقال إنه يحب النساء الجميلات مثلي تمامًا، ويميل إلى النساء صغيرات السن، جيفري يستمتع بحياته الاجتماعية دون شك”.
ورد اسم ترامب مجددًا في سياق القضية بعد الكشف عن دفعة جديدة من رسائل إبستين الإلكترونية، التي أُفرج عنها ضمن مراجعة موسعة لملف الاتجار بالبشر، ونُسب في بعضها إلى إبستين قوله إن “ترامب كان يعلم بأمر الفتيات وطلب من غيسلين ماكسويل أن تتوقف”، بينما أشارت رسالة أخرى إلى أن إحدى الضحايا “قضت ساعات” معه في منزل إبستين عام 2011.
نفى الرئيس الأمريكي بشدة أي صلة بجرائم إبستين، معتبرًا ما ورد في تلك الرسائل “جزءًا من حملة سياسية” ضده، مؤكدًا أن علاقته بإبستين كانت محدودة وأنه رفض زيارة الجزيرة الخاصة التي يمتلكها.
تزامنًا مع ذلك، عاد اسم فيرجينيا جيوفري إلى الواجهة بعد نشر مذكراتها التي تضمنت روايات جديدة عما تقول إنها تعرضت له في منازل إبستين وعلى متن طائراته الخاصة، وزاد انتحارها المفاجئ عام 2025 من الغموض المحيط بالقضية.
بعد سنوات على وفاة إبستين، ما زالت قضيته من أكثر الملفات إثارة للجدل في الولايات المتحدة والعالم، فشبكته التي امتدت إلى السياسة، والاقتصاد، والترفيه ما زالت تكشف خيوطًا جديدة، والأسماء التي ارتبطت به ما زالت تواجه أسئلة من دون إجابات حاسمة، فيما تظل قضيته رمزًا لتقاطع الثروة، والنفوذ، والاتهامات التي لم تُغلق رغم انتهاء حياته.
