
تشهد الولايات المتحدة تصاعدًا ملحوظًا في الاضطرابات الاقتصادية نتيجة للسياسات التجارية التي يتبناها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وسط مخاوف متزايدة من زعزعة استقرار الأسواق، وتآكل الثقة بالمؤسسات النقدية، وتنامي التحديات التي قد تؤثر سلبًا على مكانة الدولار الأميركي على المدى البعيد، مما يثير قلقًا واسع النطاق في الأوساط الاقتصادية العالمية
### ارتفاع الرسوم الجمركية وتأثيرها
في سابقة لم يشهدها الاقتصاد الأميركي منذ 91 عامًا، قفز متوسط الرسوم الجمركية من 2.5% في يناير إلى حوالي 18.2% حاليًا، وذلك وفقًا لتقارير اقتصادية رسمية، هذه الزيادة الحادة لا تمثل فقط عبئًا على المستهلك، بل تعكس أيضًا تحولًا جذريًا في السياسة التجارية الأميركية، مما يثير تساؤلات حول مستقبل التجارة الدولية والقدرة التنافسية للاقتصاد الأميركي
### الخسائر الاقتصادية المتوقعة
تشير التقديرات إلى أن الاقتصاد الأميركي قد يخسر هذا العام حوالي 152 مليار دولار بسبب الرسوم الجمركية، بينما يُتوقع أن تصل خسائر الأسر الأميركية إلى 307 مليار دولار في عام 2025، وهذا يشمل نحو 128 مليون أسرة، وفي سوق العمل، فقد أكثر من 750 ألف موظف وظائفهم منذ بداية العام، وهو أعلى معدل لفقدان الوظائف منذ خمس سنوات، أما على مستوى الشركات، فالتكلفة لا تقل فداحة، حيث تجاوزت الخسائر التراكمية المتوقعة 50 مليار دولار
### تسييس القرارات الاقتصادية
يرى خبراء أن التحدي الأكبر يكمن في تسييس القرارات الاقتصادية، وتحديدًا سعي ترامب للتدخل في قرارات البنك الفيدرالي الأميركي، بل وإقالة رئيسة مكتب إحصاءات العمل، وهذا يهدد استقلالية المؤسسات المالية ويزعزع ثقة المستثمرين، ليس فقط داخل الولايات المتحدة، بل في الأسواق العالمية أيضًا، مما يزيد من حالة عدم اليقين الاقتصادي
### مكانة الدولار في خطر
على الرغم من أن الدولار لا يزال يشكل 60% من احتياطيات البنوك المركزية في العالم، ويهيمن على 90% من معاملات النقد الأجنبي و80% من الصفقات التجارية، إلا أن مكانته كعملة مهيمنة لم تعد مطلقة، فبعد أكثر من 80 عامًا على تأسيس هذا النظام عبر اتفاقية “بريتون وودز”، بدأت تصدعات تظهر في الجدار، مما يثير قلقًا بشأن مستقبل النظام المالي العالمي
أكثر من 70% من البنوك المركزية تخطط لتقليص احتياطاتها من الدولار، مدفوعة بالخوف من العقوبات المحتملة كما حدث مع روسيا، بينما تتجه اقتصادات كبرى مثل الصين وروسيا والبرازيل إلى استخدام العملات المحلية في معاملاتها التجارية، في ظل هذه الظروف، يزداد التساؤل حول مدى قدرة الدولار على الحفاظ على مكانته كعملة عالمية مهيمنة
ولعل الدين العام الأميركي الذي تجاوز 37 تريليون دولار، إلى جانب اضطراب السياسة الاقتصادية، يزيدان من القلق بشأن استدامة الهيمنة المالية الأميركية، مما يستدعي اتخاذ تدابير جادة للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والثقة في النظام المالي الأميركي
### آراء الخبراء حول الوضع الحالي
قال طلال العجمي، الرئيس التنفيذي لشركة VI Markets، في مقابلة مع برنامج “بزنس مع لبنى” على سكاي نيوز عربية، إننا دخلنا مرحلة جديدة من العلاقة المتشابكة بين السياسة النقدية والسياسة الانتخابية، وأضاف: “ترامب بدأ يضغط على الفيدرالي لخفض الفائدة، والفيدرالي يحاول أن لا يبدو خاضعًا للضغوط، لكنه لا يستطيع تجاهل ضعف أرقام التوظيف الأخيرة”
بيانات يوليو، بحسب العجمي، كانت أضعف من المتوقع، مما دفع الأسواق لتسعير خفض للفائدة في سبتمبر بنسبة تتجاوز 80%، ويضيف: “دخلنا مرحلة انتقالية بين سياسة التشديد النقدي التي استمرت عامًا ونصف، وبين سياسة أكثر مرونة وربما تحفيزية لو تصاعدت الضغوط الاقتصادية”
### تفاؤل حذر في الأسواق
رغم كل ما يحدث، لا تزال المؤشرات الرئيسية في وول ستريت، وخاصة S&P 500، محافظة على مكاسبها، ويُعزى هذا إلى رهان الأسواق على أن الفيدرالي سيتدخل في النهاية لإنقاذ الاقتصاد، خاصة مع تفاقم المؤشرات السلبية
لكن العجمي يحذر من هشاشة هذا التفاؤل: “أي مفاجأة سلبية من الصين أو من الاستهلاك المحلي قد تقلب الطاولة تمامًا”، مما يؤكد على ضرورة الحذر والترقب في التعامل مع الأسواق المالية
### عودة الذهب والعملات الرقمية
مع تراجع الثقة في الدولار وتزايد حالة عدم اليقين، عاد الذهب ليؤدي دور الملاذ الآمن، بعدما كسر حاجز 2300 دولار للأونصة مؤخرًا، بينما حققت الفضة قفزة بـ4% في أقل من شهر، ويؤكد العجمي: “المستثمرون بدأوا بالعودة إلى المعادن والذهب كوسيلة تحوط من التقلبات السياسية والنقدية”
أما البتكوين، فقد عاد للواجهة من بوابة الأجيال الجديدة من المستثمرين، حيث تجاوز حاجز 115,000 دولار، وفقًا للعجمي، الذي قال: “الجيل الجديد يرى في البتكوين تحوّطًا بديلًا عن الذهب، وعودة بعض الأموال إليه سببها تراجع شهية المخاطرة في سوق الأسهم”
ورغم تحفظه الشخصي على فكرة العملات المشفرة، إلا أنه يعترف: “خلال أغسطس وأوائل سبتمبر، أتوقع بقاء البتكوين بين 110 و120 ألف دولار، وإذا اتجهنا نحو خفض الفائدة، سيستفيد البتكوين بالتأكيد”
### مستقبل الاقتصاد العالمي
سنة 2025، كما يبدو من المؤشرات الراهنة، ستكون عام التقلبات، معادلة معقدة من الركود المحتمل، وضغوط سياسية على الفيدرالي، وتصاعد التوترات التجارية، وتغيّرات في سلوك المستثمرين، وربما تهديد حقيقي لمكانة الدولار العالمي
يختم العجمي بقوله: “التنويع لم يعد رفاهية، بل أصبح وسيلة للبقاء، على المستثمر أن يكون انتقائيًا ويتجه نحو القطاعات القوية، مثل الذكاء الاصطناعي والرعاية الصحية، مع جزء من المحفظة في الذهب والسندات”
“الهبوط الناعم” الذي تأمله الأسواق الأميركية ليس مضمونًا، وإذا استمرت الضغوط على الاحتياطي الفيدرالي، وتصاعدت التوترات السياسية والجمركية، فإن “العاصفة” الاقتصادية التي تلوح في الأفق قد تتحول إلى إعصار اقتصادي لا يهدد الداخل الأميركي فقط، بل يضرب النظام المالي العالمي برمته