هل يهدد مجتمع اللا قراءة مكانة التفكير النقدي؟

هل يهدد مجتمع اللا قراءة مكانة التفكير النقدي؟



مصدر الصورة

في خضم التطورات الرقمية المتسارعة، يظهر أن القدرات المعرفية للإنسان المعاصر تشهد تراجعًا ملحوظًا، لكنه يتوارى عن الأنظار، ولا يظهر بشكل جلي للجميع

لا يقتصر الأمر على انخفاض مستويات القراءة أو ضعف التحصيل الأكاديمي، بل يمتد ليشمل جوانب أعمق تتعلق بالاهتمام، والتركيز، والقدرة على التفكير التحليلي، وهي مهارات أساسية للتطور والتقدم

بسبب هيمنة الاقتصاد الرقمي، الذي يعتمد على جذب الانتباه الفوري، والتعرض المستمر للمحتوى السريع والمختصر، أصبح العقل يفضل الاستجابات السطحية، ويواجه صعوبة متزايدة في الانخراط في عمليات التفكير المطولة أو المعقدة، مما يؤثر سلبًا على قدراتنا الإدراكية

ومع تفاقم هذا الوضع في العقد الأخير، بدأت تظهر ملامح انقسام مجتمعي جديد بصمت، بين أولئك الذين أدركوا هذا الخطر ويحاولون مقاومته، وأولئك الذين يقعون فريسة له دون حماية، فكما كانت المعرفة تاريخيًا وسيلة للتقدم الاجتماعي، فإن تراجعها اليوم يهدد بإعادة إنتاج التفاوتات على مستوى الإدراك ذاته، مما يزيد من حدة التحديات القائمة

*

*

*

“أميّة معرفية”؟



مصدر الصورة

على الرغم من استمرار ارتفاع معدلات القراءة والكتابة الأساسية عالميًا، حيث تشير تقارير اليونسكو إلى انخفاض نسبة الأمية بين البالغين من 68% عام 1979 إلى أكثر من 86% حاليًا، إلا أن المخاوف تتزايد بشأن جودة هذه المهارات وعمقها، خاصة مع التراجع الملحوظ في الكفاءة القرائية لدى الفئات الأقل تعليمًا، مما يستدعي التدخل العاجل

ووفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تراجعت مهارات القراءة لدى البالغين في 11 دولة من أصل 31 دولة تم تقييمها، وخاصة بين الفئات “الأقل أداءً”، بينما تحسنت لدى الفئات العليا، مما ساهم في تعميق الفجوة المعرفية، وتوسيع نطاق التحدي

في عام 2023، كشفت دراسة للبنك الدولي أن معدلات تحصيل القراءة لدى الطلاب انخفضت في 20 دولة من أصل 31 دولة بين عامي 2016 و2021، مما يعكس تدهورًا عامًا في قدرات الفهم القرائي المبكر، الأمر الذي يتطلب اهتمامًا خاصًا

أقرأ كمان:  «صدمة في ميشيغان» إصابات في حادث طعن جماعي يهز ولاية ميشيغان الأميركية

يتزامن هذا التراجع مع انخفاض ملحوظ في معدل القراءة للمتعة، خاصة بين الشباب، حيث أفادت تقارير بريطانية حديثة بأن نسبة الأطفال الذين يستمتعون بالقراءة وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ 20 عامًا، مما يثير القلق بشأن مستقبل القراءة

لذا، بينما تستمر الأمية التقليدية في التراجع، نشهد صعودًا مقلقًا لما يُعرف بـ “الأمية المعرفية” في عصر الرقمنة، حيث تتلاشى القدرة على التركيز، والقراءة المطولة، والتحليل النقدي، وهي مهارات ضرورية للتفكير السليم

يطلق البعض على هذا التحول اسم “مجتمع ما بعد القراءة والكتابة” أو “مجتمع ما بعد الثقافة النصية”، حيث لم تعد القراءة النصية المصدر الأساسي للمعرفة، مما يشير إلى تحول كبير في طرق اكتساب المعرفة

شكل جديد من انعدام المساواة



مصدر الصورة

يرى البعض أنه إذا كانت الثورة الصناعية قد قسمت المجتمعات بناءً على ملكية رأس المال، فإن الثورة الرقمية تعيد تشكيل هذا التقسيم بناءً على امتلاك “اللياقة الذهنية” أو فقدانها، مما يخلق فوارق جديدة

لم يعد الفقراء اليوم هم فقط المحرومين من الموارد الاقتصادية، بل هم أيضًا الغارقون في الوسائط الرقمية التي تضعف قدراتهم المعرفية، مما يزيد من أعبائهم وتحدياتهم

يشبه البعض هذا التحول بارتباط ارتفاع معدلات السمنة بالوضع الاجتماعي، حيث يلحق انتشار الوجبات السريعة الضرر الأكبر بالذين يملكون موارد أقل، بالإضافة إلى كونها مسببة للإدمان وسهلة الوصول، مما يزيد من تفاقم المشكلة

وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، تشير الأبحاث التي أجريت في الولايات المتحدة إلى أن الأطفال المنحدرين من عائلات ذات دخل منخفض يقضون ساعات أطول يوميًا في “وقت الشاشة الترفيهي” مقارنة بأقرانهم من العائلات الثرية، مما يزيد من الفجوة بينهم

تتحول هذه الفجوة الرقمية إلى فجوة معرفية لاحقًا، تتمثل في ضعف الذاكرة، والمهارات اللغوية، والقدرة على التحليل، مما يؤثر على مستقبلهم وفرصهم

أقرأ كمان:  «وداعًا للكوميديا؟».. لطفي لبيب يكشف عن قرار صادم بحذف أحد أدواره.. وعلاقته بـ"الزعيم" كلمة السر

في المقابل، تشير هذه الأبحاث إلى أن النخب الثقافية والدينية والتقنية بدأت في “التحصن” خلف بدائل تعليمية باهظة الثمن، لحماية أبنائهم من هذه المخاطر

على سبيل المثال، نجد أن مدارس “فالدورف” الأمريكية التي تحظر الأجهزة الذكية تمامًا، والمدارس الكلاسيكية التي تعيد الاعتبار للكتب المهمة عبر التاريخ، أصبحت الخيار المفضل للأثرياء، بتكلفة تصل إلى 34 ألف دولار سنويًا في بعض الولايات الأمريكية، مما يعكس التوجه نحو التعليم المتميز

حتى عمالقة التكنولوجيا أنفسهم، مثل بيل غيتس وإيفان شبيغل، يحرصون على تقنين استخدام أطفالهم للشاشات، كما يلجأ بعضهم إلى مربيات يُطلب منهن توقيع “عقود عمل بلا هواتف”، وآخرون يعتمدون أساليب “الصيام عن الدوبامين” للسيطرة على إدمان الهواتف الذكية، مما يدل على وعيهم بالمخاطر

لكن هذا النهج النخبوي لا يزال حكرًا على قلة، أما الغالبية العظمى، فتغوص أكثر فأكثر في بيئة من التشتت، في غياب أي سياسة عامة لحماية القدرات الذهنية الجماعية، وهو ما يستدعي تدخلًا فعالًا

تهديد جذري للديمقراطية؟



مصدر الصورة

يحذر البعض من خطر سياسي قد ينجم عن هذا الوضع، حيث أن التدهور المعرفي غالبًا ما يؤدي إلى أزمة في الديمقراطية، مما يستدعي الحذر والتنبه

فالمواطن الذي لا يقرأ، ولا يستطيع متابعة حجة معقدة، ولا يملك الوقت أو القدرة الذهنية على التفكير النقدي، يصبح فريسة سهلة للدعاية، والشعارات السطحية، والمعلومات الزائفة المنتشرة بكثرة على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يهدد العملية الديمقراطية

يرى المفكرون أن تراجع القدرة على التركيز، والقراءة العميقة، والتفكير النقدي يشكل تهديدًا بنيويًا للأنظمة الديمقراطية، ويعزز فرص وصول شخصيات شعبوية إلى السلطة، كما حدث في أماكن عدة في المجتمعات الغربية في السنوات الأخيرة، مما يتطلب وعيًا وتصديًا

أقرأ كمان:  «صدمة وانقسام» أول ظهور علني لبطلة فيديو الخيانة الزوجية يثير الجدل بتجاهل خاتم الزواج

في عالم تهيمن عليه خوارزميات انتقائية تصنع “فقاعات إدراكية”، ويستهلك فيه المحتوى على شكل ميمات ومقاطع قصيرة، تتحول العلاقة بالمعرفة إلى علاقة استهلاك لا علاقة مساءلة، هذا التحول لا يضعف فقط وعي الأفراد، بل يفتح المجال أمام تضليل واسع النطاق، حيث تغيب القدرة على التحقق، ويحل التفاعل العاطفي محل التحليل العقلاني، مما يهدد أسس الديمقراطية