تتجه أنظار العالم نحو مستقبل واعد, حيث يلوح في الأفق عصر ذهبي جديد مدفوعًا بالذكاء الاصطناعي العام (AGI), هذا التحول, إذا تحقق, سيقود البشرية إلى وفرة غير مسبوقة, وقدرة على معالجة أعقد المشكلات, بدءًا من الأمراض الفتاكة, ووصولًا إلى إيجاد مصادر طاقة مستدامة, مما يطيل أعمارنا ويحسن من جودة حياتنا
هذا ما أشار إليه ديميس هاسابيس, الرئيس التنفيذي لشركة غوغل ديبمايند, والحائز على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2024, في مقابلة حديثة مع مجلة “وايرد” الأميركية, وأكد أنه لم يتبق سوى خمس سنوات تفصلنا عن هذا العصر الذهبي, حيث ستحدث طفرة حقيقية بفضل نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة
يبقى التساؤل الأهم, هل سيتم توزيع هذه الوفرة بشكل عادل بين جميع دول العالم؟
وفي هذا الصدد, صرح الملياردير الأمريكي ومؤسس مايكروسوفت, بيل غيتس, في حواره مع شبكة CNN, بأن الذكاء الاصطناعي لن يقتصر على الولايات المتحدة والصين, بل سيتوسع ليشمل العالم بفضل انتشار البرمجيات مفتوحة المصدر, مما يمنح الدول الأخرى فرصًا متساوية للدخول إلى هذا المجال الحيوي
لكن, في النهاية, يعتمد الأمر على السياسات الوطنية الذكية, وعلى مدى جدية كل دولة في استثمار هذه الثورة التكنولوجية
دول الخليج تتبنى الذكاء الاصطناعي
أدركت دول الخليج العربي مبكرًا أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية مستحدثة, بل هو قطاع استراتيجي ضروري لتحقيق النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة, وقد برزت الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر في صدارة المشهد الإقليمي, حيث اتخذت خطوات جادة لتعزيز مكانتها على خريطة الذكاء الاصطناعي العالمية, من خلال استراتيجيات وطنية طموحة واستثمارات ضخمة في البنية التحتية الرقمية
ريادة الإمارات في مجال الذكاء الاصطناعي
تعتبر الإمارات العربية المتحدة من أوائل الدول التي بادرت بتأسيس مجموعة “جي42” (G42) عام 2018, لتكون حجر الزاوية في تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي على المستويين المحلي والعالمي, وقد حظيت المجموعة باهتمام دولي ملحوظ, خاصة بعد استثمار شركة مايكروسوفت فيها بمبلغ 1,5 مليار دولار في عام 2024, مما يؤكد الثقة العالمية في قدرات هذه الشركة الإماراتية
وفي عام 2024, شاركت “جي42” أيضًا في تأسيس شركة استثمارية جديدة تحت اسم إم جي إكس (MGX), بالشراكة مع شركة مبادلة الإماراتية, بهدف الوصول إلى أصول تتجاوز 100 مليار دولار للاستثمار في الذكاء الاصطناعي, كما كشفت المجموعة في مايو 2025, عن مشروع “ستارغيت الإمارات”, بالتعاون مع “أوبن إيه آي” وشركات عالمية كبرى مثل “أوراكل” و”إنفيديا” و”سوفت بنك” و”سيسكو”, ويعتبر هذا المشروع أول مركز بيانات ضخم خارج الولايات المتحدة, حيث يقع في أبوظبي على مساحة 26 كيلومترًا مربعًا
من المتوقع أن تصل القدرة التشغيلية الأولية لهذا المركز إلى حوالي 200 ميغاواط, مع خطط مستقبلية للتوسع لتصل إلى 1 غيغاواط بحلول نهاية عام 2026, وتتوقع شركة تريندفورس للتحليلات أن يتم ذلك باستخدام 100 ألف رقاقة من إنتاج شركة إنفيديا
المملكة العربية السعودية ورؤية الذكاء الاصطناعي
تبنت المملكة العربية السعودية استراتيجية واسعة وطموحة في مجال الذكاء الاصطناعي, حيث أطلقت في مايو 2025 شركة هيوماين (Humain), لتكون محورًا استراتيجيًا تحت مظلة صندوق الاستثمارات العامة, وذلك بهدف تعزيز مكانة المملكة كمركز عالمي للذكاء الاصطناعي وجذب الاستثمارات الدولية
وفي منتدى الاستثمار السعودي الأميركي في الرياض عام 2025, أعلن جنسن هوانغ, الرئيس التنفيذي لشركة إنفيديا, أن الشركة ستزود هيوماين بـ 18 ألف وحدة معالجة رسومية متطورة من نوع بلاك ويل جي بي 300 (Blackwell GB300), لبناء مركز بيانات كبير بقدرة 500 ميغاواط
جاءت هذه الخطوة بعد تخفيف الولايات المتحدة للقيود المفروضة على تصدير تقنيات الذكاء الاصطناعي, كما أبرمت هيوماين اتفاقية كبيرة مع شركة تصنيع الرقائق الأمريكية إيه إم دي (AMD), لاستثمار 10 مليارات دولار خلال السنوات الخمس القادمة في تطوير البنية التحتية للذكاء الاصطناعي, وإنشاء مراكز بيانات متطورة وشبكات من الألياف الضوئية وأنظمة طاقة مستدامة, تمتد بين السعودية والولايات المتحدة
بالإضافة إلى ذلك, أعلنت شركة أوراكل عن استثمار 14 مليار دولار في المملكة على مدار السنوات العشر القادمة في مجال الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي, في حين تخطط أمازون ويب سيرفيسز بالتعاون مع هيوماين لاستثمارات إضافية بقيمة 5 مليارات دولار لإنشاء منطقة مخصصة للذكاء الاصطناعي
وكشفت هيوماين عن نيتها طرح نموذج ذكاء اصطناعي جديد باسم “علّام”, تم تطويره وتدريبه بالكامل داخل المملكة, ومن المقرر إطلاقه مع نهاية شهر أغسطس الحالي
ووفقًا للرئيس التنفيذي, فإن هذا النموذج موجه خصيصًا لخدمة اللغة العربية بجميع لهجاتها, وسيتاح للجمهور من خلال تطبيق مجاني يحمل اسم “هيوماين شات”
قطر تستثمر بقوة في الذكاء الاصطناعي
لم تتخلف قطر عن الركب في سباق الذكاء الاصطناعي, فمنذ إطلاق استراتيجيتها الوطنية عام 2019, وضعت الدولة خططًا متكاملة تشمل التعليم والبنية التحتية الرقمية ودعم البحث العلمي والتطوير, وفي إطار الأجندة الرقمية 2030, أعلنت قطر عن استثمارات ضخمة تصل إلى حوالي 2,5 مليار دولار لتطوير قدرات الذكاء الاصطناعي, وتدريب 50 ألف متخصص بحلول عام 2025
تضمنت جهود قطر اتفاقيات استراتيجية مثل الاتفاقية مع شركة سكيل للذكاء الاصطناعي (Scale AI) الأمريكية لتطوير أكثر من 50 مشروعًا حكوميًا في مجال الذكاء الاصطناعي, بالإضافة إلى لجنة بحثية مشتركة مع جامعة كوين ماري في لندن, كما أطلقت قطر عام 2024 منصة فنار التي تهدف إلى دعم وتطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي الخاصة باللغة العربية, وهو ما يعد خطوة مهمة في تعزيز المحتوى العربي في مجال التكنولوجيا, وقد شاركت جوجل في تطوير منصة فنار من خلال شراكة تقنية مع معهد قطر لبحوث الحوسبة
توظف قطر تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي أيضًا في إدارة النقل والطاقة والخدمات الحضرية, حيث أطلقت مشروع “الامتثال للعقود” الحكومي, الذي يستخدم الذكاء الاصطناعي لتدقيق العقود وتقليل الأخطاء البشرية, وتتعاون حاليًا مع شركات مايكروسوفت وأوبن إيه آي لإطلاق خدمة “الكونسيرج الذكي” في القطاع السياحي
وعلى مستوى التنافسية الإقليمية, ضخت قطر استثمارات كبيرة في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي, مثل توسعة مراكز البيانات بالتعاون مع شركة إنفيديا, بالإضافة إلى إطلاق برنامج حوافز بقيمة مليار دولار لدعم شركات التكنولوجيا
إدراج الذكاء الاصطناعي في المناهج التعليمية
اتخذت الإمارات والسعودية وقطر خطوة مهمة نحو المستقبل, بدمج الذكاء الاصطناعي في المناهج التعليمية, بهدف إعداد جيل متمكن وقادر على مواكبة متطلبات العصر, تعمل الإمارات على إدراج مادة الذكاء الاصطناعي كمقرر دراسي مستقل في المدارس الحكومية, من مرحلة رياض الأطفال وحتى الصف الثاني عشر, اعتبارًا من العام الدراسي 2025-2026
يهدف هذا المنهج إلى تعزيز التفكير النقدي وتطوير حلول مبتكرة, وأعلنت السعودية عن خطط لإدراج منهج الذكاء الاصطناعي في جميع مراحل التعليم العام, من رياض الأطفال إلى المرحلة الثانوية, بدءًا من العام الدراسي 2025-2026, وتأتي هذه الخطوة ضمن الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي, التي تهدف إلى جعل المملكة ضمن أفضل 15 دولة في هذا المجال, أما قطر, فقد أدرجت بالفعل الذكاء الاصطناعي والبرمجة في مناهجها الدراسية, مع التركيز على التعليم التفاعلي وبناء المهارات الرقمية للطلاب
أولويات المرحلة المقبلة في سباق الذكاء الاصطناعي
لفهم موقع السعودية والإمارات وقطر في سباق الذكاء الاصطناعي, يجب الرجوع إلى المؤشرات العالمية المتخصصة في قياس التقدم في هذا القطاع, تُظهر هذه التقارير مستويات متقدمة نسبيًا حققتها الدول الثلاث, مع تسليط الضوء على المجالات التي تحتاج إلى مزيد من التحسين
احتلت المملكة العربية السعودية المرتبة 15 عالميًا في عدد المنشورات البحثية في مجال الذكاء الاصطناعي, مسجلة 29,639 منشورًا, أي ما يعادل حوالي 823 منشورًا لكل مليون نسمة, وفقًا لمؤشر التنافسية العالمية للذكاء الاصطناعي الصادر عن منتدى التمويل الدولي (IFF) في فبراير 2025, أما الإمارات العربية المتحدة, فقد حلت في المرتبة التاسعة عالميًا من حيث كثافة شركات الذكاء الاصطناعي, بمعدل 49,5 شركة لكل مليون نسمة, وفقًا للمؤشر ذاته
فيما يتعلق بجاهزية الحكومات للذكاء الاصطناعي, أصدرت شركة أوكسفورد إنسايتس, المتخصصة في تقديم الاستشارات للحكومات والمؤسسات حول سياسات الذكاء الاصطناعي, في أواخر عام 2024, مؤشر جاهزية الحكومات للذكاء الاصطناعي, الذي يقيس مدى استعداد حكومات 188 دولة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الخدمات العامة, بناءً على 39 مؤشرًا فرعيًا تابعة لـ 3 ركائز, وهي: الحكومة, قطاع التكنولوجيا, والبيانات والبنية التحتية
تصدرت الإمارات والسعودية وقطر المراكز الثلاثة الأولى عربيًا, وجاء ترتيبها العالمي على النحو التالي: في مؤشر الحكومة, احتلت هذه الدول الثلاث المراتب 14 و19 و33 على التوالي, وفي مؤشر قطاع التكنولوجيا, احتلت المراكز 14 و25 و35 على التوالي, وفي البيانات والبنية التحتية, احتلت المراتب 17 و20 و29 على التوالي, وهذا يوضح إمكانية تحقيق المزيد من التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي, وتحقيقًا لذلك, أطلقت الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) في 23 يوليو 2025 المؤشر الوطني للذكاء الاصطناعي, لتقييم جاهزية المؤسسات لتبني تقنيات الذكاء الاصطناعي, ورصد تقدمها وتقديم توصيات لدعم جاهزيتها بشكل منتظم
يتألف المؤشر من 3 ركائز, هي:
١- التوجهات وتشمل الإستراتيجية والحوكمة
٢- الممكنات وتشمل البيانات والبنية التحتية والقدرات البشرية
٣- المخرجات ويشمل التطبيقات والأثر
وتمثل هذه الركائز الإطار المرجعي لقياس تقدم المملكة في مجال الذكاء الاصطناعي ومقارنته عالميًا
أخيرًا, وصف ديميس هاسابيس, في مقابلة حديثة مع صحيفة ذا غارديان البريطانية, التطور الذي سيحدثه الذكاء الاصطناعي في الحضارة البشرية, قائلًا: “سيكون أكبر بـ 10 مرات من الثورة الصناعية, وربما أسرع بـ 10 مرات”