“فقط لنتذكر أن الشعب العربي الحر الذي لم تحتله إسرائيل قط هو شعب فلسطين”، كلمات الأديب الراحل أحمد خالد توفيق، تجسد جوهر القضية الفلسطينية.
الصحفي الفلسطيني صالح الجعفراوي، كان نموذجًا “عظيمًا” للإعلامي الذي يوثق معاناة شعبه في ظل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
### صوت غزة للعالم
بكاميرته وكلماته عبر وسائل التواصل الاجتماعي، استطاع الجعفراوي نقل الواقع المأساوي لقطاع غزة إلى العالم، موثقًا الأحداث الدامية والمستحيلة، ومسلطًا الضوء على صمود الفلسطينيين في مواجهة القصف والدمار، ليصبح شاهدًا وناقلًا لقصة شعب قاوم الاحتلال تحت مرمى النيران. صالح الجعفراوي ليس مجرد سيرة صحفي في غزة، بل هو شهادة حية على قدرة الإنسان على العمل بتفوق في أصعب الظروف، وعلى التزام الإعلامي بمهمته الأخلاقية لنقل الحقيقة مهما كانت، ومهما كانت المخاطر. اسم “صالح” على اسم نبي الله صالح عليه السلام الذي بعث إلى قوم ثمود، أما الاسم ذاته، الذي يعني “المستقيم أو الفاضل” فهو عربي أصيل لا يمت لأصل للعبرانية بصلة، ويحمل وقعًا صوتيًا لطيفًا وجرسًا موسيقيًا يطرب الآذان. معاني الصلاح كما وردت في معاجم اللغة العربية، تتجلى في فعل الخير والأعمال الصالحة.
### نجم تنس طاولة وحافظ القرآن
ولد صالح الجعفراوي في 22 يناير عام 1997، وعاش طوال حياته تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي، لكنه عمل بجد واجتهاد رغم الظروف الصعبة، ليلتحق بكلية الإعلام في الجامعة الإسلامية بغزة كما حفظ القرآن الكريم كاملاً. شارك الجعفراوي، لاعب الجامعة الإسلامية، في بطولة الدول العربية لتنس الطاولة التي أقيمت في مصر خلال ديسمبر 2022، ضمن فريق المجمع الرياضي. نجح الجعفراوي في إحراز المركز الأول على مستوى الجامعة الإسلامية، ما أهله لتمثيل فلسطين في بطولة العالم لتنس الطاولة التي أقيمت في قطر عام 2023. في بطولة “WTT Feeder Doha 2023″، التي شهدت مشاركة أكثر من 100 لاعب من كل أنحاء العالم، قدّم الجعفراوي أداءً متميزًا، وتمكن من الوصول إلى دور ثمن النهائي قبل أن يودع البطولة على يد لاعب كوري.
### توثيق المعاناة ونقل صوت الفلسطينيين للعالم
“بعض اللحظات يخيل للمرء أن هذا كله غير حقيقي وأنها لقطات أخذت من فيلم رعب معوي مبالغ فيه مثل المنشار، ثم تفطن إلى أن هذا هو الواقع المرير، وأن هذه الدماء ليست عصير طماطم”، كلمات أحمد خالد توفيق، تعكس الواقع المأساوي الذي وثقه الجعفراوي. حرص الجعفراوي على توثيق معاناة الشعب الفلسطيني ونقلها للعالم، مستفيدًا من دراسته للصحافة والإعلام. بدأ الجعفراوي مسيرته المهنية بتغطيته الإعلامية خلال عدوان “سيف القدس” عام 2021، إذ نشر محتوى عبر وسائل التواصل الاجتماعي رغم أن ظهوره على المنصات كان محدودًا للغاية. من أبرز المشاهد التي وثقها، لحظة خروج شخص من تحت أنقاض منزله بعد استشهاد زوجته وأبنائه، وهو يرفع علامة النصر. قبل اندلاع حرب 7 أكتوبر 2023، حذف حساب الجعفراوي على إنستجرام، وكان يعتمد على حساب احتياطي يضم نحو 5 آلاف متابع فقط. مع اندلاع الحرب، استطاع توثيق الأحداث ونقلها إلى ملايين المتابعين حول العالم، ما جعله يصل إلى جمهور لم يكن يتوقعه.
* “نخرج للتصوير ونحن نضع احتمال 90% أن نتعرض للاستهداف، وهذا يجعل عملنا في غاية الصعوبة”.
* “أسلوب الحياة في غزة أثناء العدوان أصبح قائمًا على البقاء، الحصول على غذاء نظيف، ومياه صالحة للشرب، وراحة جسدية، أمور شبه مستحيلة، ما يزيد من صعوبة تغطية الأحداث”.
* “نعمل وسط ظروف قاسية جدًا، ولكن التزامنا بنقل صوت الناس يجعلنا نستمر”.
* “هدفي الأساسي أن اترك بصمة ويكون صوت الفلسطينيين للعالم، لا أريد أن أكون مجرد شاهد عابر، بل أريد أن يكون لي أثر وأوصل معاناة الناس بطريقة حقيقية وموثقة”.
### “وينك يا إنسانية”: صرخة غزة
“وينك يا إنسانية يا حسرة العين والدمع يا جراحنا المنسية والعالم شاف وسمع حسوا بوجعنا شوية”.
“قوية يا غزة اطلعي من عز جرحك وأرفعي شارة نصر رح ترجعي بجنودنا عمرانة أبية يا غزة”.
“اسمعي يا عالية ماتخضعي إلا لربك، تركعي معنا ولا ينسانا، يا أختي لو مرة أرجعي يا يما لو صوتك معي ياروح قلبي توجعي يابا أنت جوة ضلوعي”.
“يا حارتي اللي مدمرة يا دموع عين محجرة، غزة بدماها معطرة حريتك مشروعي وين العدالة، اغضب لدمي اللي انسكب، تجمعنا همة قوية لجراح في صدر الطفل واتذكروا احنا أهل عز النصر قول وفعل تنحقق الحرية” كلمات أغنية وينك يا إنسانية لـ صالح الجعفراوي. أصدر الجعفراوي تلك الأغنية لدعم غزة في عام 2024، قائلاً “60 يوماً مرّت على بداية حربٍ ضروس لم تترك بيتاً ولا طفلاً ولا شيخاً ولا امرأة، أكثر من 20 ألف شهيد و40 ألف جريح منذ بداية العدوان، وما زالت المجازر تتوالى”. وأتم “هذا العمل خرج من رحم المعاناة بأبسط الإمكانيات، لنُرِ العالم بشاعة المشهد، ولنوصل رسالتنا لكل العالم باللغة التي يفهمها الجميع، لغة الصوت والصورة والموسيقى”.
### الكاميرا وسيلة النجاة
“ترى بأم عينك كيف تنفجر سيارات الإسعاف وكيف يخرجون الرضع من تحت الأنقاض، ومن ينج منهم يمت بقنبلة تهوي فوق المستشفى، مندوب الأونروا -وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين- يفقد تماسكه أمام الكاميرا وهو يصف المجزرة التى حدثت فى مدرسة أطفال، من ثم يبكى كطفل هو نفسه”، كلمات الأديب الراحل أحمد توفيق، تصف الواقع المرير للصحفيين في غزة. منذ بدء الهجمات في 7 أكتوبر، عاش الصحفيون في غزة ظروفًا استثنائية، واضطروا إلى ترك منازلهم والعيش في المستشفيات والخيام المؤقتة. كان بعضهم ينامون في خيمة محاطة بالشهداء، وعلى الرغم من الظروف الصعبة، كان النوم على الأرض الصلبة سبيلهم للراحة المؤقتة وسط فوضى الحرب. رأى الصحفيون مشاهد مأساوية، إذ كانت مهمتهم الأساسية توثيق الأحداث ونقلها للعالم، تلك المهمة الثقيلة التي تتطلب طاقة هائلة وقدرة على الاستمرار في ظل القصف المتواصل، مع الحفاظ على سلامتهم الشخصية أثناء توثيق الأحداث. كان الجميع في غزة بلا استثناء، مستهدفًا الصحفي والطبيب والمسعف والمدنيون وحتى الأطفال، ما جعل كل مهمة تصوير أو توثيق محفوفة بالمخاطر. رغم ذلك، استمر الصحفيون في تصوير المشاهد، رغم الجروح والدماء، معتزين بما يقومون به من نقل الحقيقة إلى العالم. واجه الصحفيون تهديدات مباشرة، ووضعوا على قوائم استهداف من قبل الاحتلال، وكان أحدهم هو صالح الجعفري نفسه، ما زاد من شعورهم بالخطر على أنفسهم وعائلتهم وذويهم، لكن ذلك لم يمنعهم من أداء رسالتهم الإعلامية والإنسانية. أثار تأثير ذلك النشاط اهتمام وسائل الإعلام الإسرائيلية، وهو ما أعطاهم شعورًا بأن صوتهم وصل وأثر حتى في عدوهم.
### بطل حقيقي
وقال الصحفي الفلسطيني صالح الجعفراوي في تصريحات سابقة لـ بودكاست “تحت النار”: “كل من صمد في غزة، صغيرًا كان أو كبيرًا، رجلًا أو امرأة، هو بطل حقيقي، وأن الصمود في وجه الاحتلال يوميًا يمثل بطولة بحد ذاته”. وأضاف “هناك أهمية خاصة للصحافة الرقمية ودور الإعلاميين المشاهير في نقل معاناة الناس للعالم”. وتابع “القدس ملك لكل المسلمين، وأن الشعوب العربية مستعدة للتضحية، بينما الحكومات غالبًا تقمع التحركات، كما أن المقاطعة ساعدت في رفع الوعي بالقضية الفلسطينية، وأن العالم يحتاج إلى العمل والدعم الفعلي وليس الكلام فقط”. وأكمل “الأطفال والشهداء والجرحى في غزة ليسوا أرقامًا، بل أصوات وحكايات حية تحت النار، تهدف إلى إيصال معاناة الفلسطينيين للعالم”. وأتم “نصور لنؤدي رسالتنا أمام الله، ونعلم أن هناك من ينقذ بالفعل، مهمتنا نحن هي التوثيق، فالتدخل أحيانًا قد يزيد الضرر”.
### مستشفى الشفاء: مبادرة إنسانية
أطلق الصحفي الفلسطيني صالح الجعفراوي مبادرة إنسانية للأطفال في غزة، بالتعاون مع جمعية الإغاثة الكويتية، بعد أن تبين أن تكلفة إعادة بناء مستشفى الشفاء تجاوزت 50 مليون دولار، ونجحت المبادرة في جمع 10 ملايين دولار لدعم المستشفى. استعرض الجعفراوي أحد المواقف في مستشفى الشهداء الأقصى خلال حريق، إذ كان على بعد عشرة أمتار فقط من النار: “رأيت فتاة صغيرة محروقة، تمكنت من إخراجها، بينما بقي والدها وجميع الحاضرين يحاولون إنقاذ الآخرين، كل لحظة هناك كانت صعبة، لكن التركيز كان على نقل الصورة الحقيقية للحدث”. وأضاف “عملي في التغطية اليومية يتطلب مواجهة الخطر بشكل دائم، إلى جانب صعوبة توفير الغذاء والراحة، موضحًا أن التفكير وردود الفعل داخل الحدث تختلف تمامًا عن خارج الحدث بسبب الضوضاء والمشهد المؤثر”. وأكمل “لم أشعر يومًا بالندم على تصوير أي مشهد، رغم صعوبة المشاهد وتأثيرها النفسي عليّ، فأنا أعتبر نقل صوت الناس ورسالتهم أهم من أي شيء آخر”. كما تحدث عن الشائعات التي تعرض لها، إذ تم اتهامه زورًا بالعمل لصالح إسرائيل: “حاولوا تهديم نفسيتي وإثارة الخوف، لكن كل هذه الأمور لم تؤثر عليّ، فالموضوع تافه أمام رسالتي”. لم توقف الصعوبات الجمة عند جمع التبرعات فقط، بل امتدت إلى التعامل مع الانقسامات السياسية والمصالح المختلفة في غزة. وأتم “هدفي كان دائما خدمة الأطفال والفلسطينيين دون الانحياز لأي جهة سياسية، وأن أي محاولة لتشويه صورته أو الحملة كانت تافهة أمام نجاح المبادرة وصدق نيتها”.
### وصية صالح: رسالة إلى العالم
“أنا صالح، أترك وصيتي هذه، لا وداعًا، بل استمرارًا لطريقٍ اخترته عن يقين، يعلم الله أنني بذلت كل ما أملك من جهدٍ وقوة، لأكون سندًا وصوتًا لأبناء شعبي، عشتُ الألم والقهر بكل تفاصيله”.
“وذُقت الوجع وفقد الأحبة مرارًا، ورغم ذلك لم أتوانَ يومًا عن نقل الحقيقة كما هي، الحقيقة التي ستبقى حجة على كل من تخاذل وصمت وأيضا شرف لكل من نصر ودعم ووقف مع أشرف الرجال وأعز الناس وأكرمهم أهل غزة”.
“إن استشهدت، فاعلموا أنني لم أغب، أنا الآن في الجنة، مع رفاقي الذين سبقوني؛ مع أنس، وإسماعيل، وكل الأحبة الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه”.
“لا تسقط الكلمة، ولا تسقط الصورة، الكلمة أمانة، والصورة رسالة، احملوها للعالم كما حملناها نحن”.
“لا تظنوا أن استشهادي نهاية، بل هو بداية لطريقٍ طويلٍ نحو الحرية، أنا رسول رسالةٍ أردت أن تصل إلى العالم”.
“وإن سمعتم بخبري، فلا تبكوا عليّ، لقد تمنّيتُ هذه اللحظة طويلًا، وسألت الله أن يرزقني إياها، فالحمد لله الذي اختارني لما أحب”.
“ولكل من أساء إلي في حياتي شتماً أو قذفاً كذباً وبهتاناً أقول لكم ها أنا أرحل إلى الله شهيدا بإذن الله وعند الله تجتمع الخصوم”.
“أوصيكم بفلسطين، بالمسجد الأقصى، كانت أمنيتي أن أصل فناءه، أن أُصلّي فيه، أن ألمس ترابه، فإن لم أصل إليه في الدنيا، فأسأل الله أن يجمعنا جميعًا عنده في جنات الخلد”، كلمات صالح الجعفراوي، وصيته الأخيرة ورسالته إلى العالم.
في النهاية، فاز صالح بالشهادة وتوقفت الحرب، بعد مبادرة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وحلفاء آخرين. استقبل الرئيس نظيره الأمريكي دونالد ترامب، على هامش قمة شرم الشيخ للسلام، بمشاركة قادة ومسؤولين من أكثر من 20 دولة حول العالم. تركز القمة على إنهاء الحرب في قطاع غزة، وتعزيز مساعي السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، مع العمل على فتح آفاق جديدة لتعزيز الأمن الإقليمي وتعميق أطر التعاون الدولي.